روى الترمذي (1892)، وابن ماجه (3423)، وغيرهما: عن سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ كَبْشَةَ، قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا فَقُمْتُ إِلَى فِيهَا فَقَطَعْتُهُ"، وفي رواية ابن ماجه: " فَقَطَعَتْ فَمَ الْقِرْبَةِ، تَبْتَغِي بَرَكَةَ مَوْضِعِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
وقال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ".
وكبشة هذه : قيل هي كبشة بنت ثابت، أختُ حسان بن ثابت لأبيه، رضي الله عنها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" كبشة بنت ثابت بن المنذر بن حرام، أخت حسان لأبيه، من بني مالك بن النّجّار. وأخرج حديثها التّرمذيّ، وأبو يعلى، من طريق يزيد بن يزيد بن جابر، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدته كبشة، قالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فشرب من في قربة معلقة قائما، فقمت إلى فيها فقطعته، كذا في خبرها ليس فيه ذكر أبيها ولا نسبها، ونسبها أبو عروبة كما ذكرت … " انتهى "الإصابة" (14/155).
وذكر الدارقطني أن كبشة المذكورة في هذا الحديث، يقال لها البرصاء، وليست هي أخت حسان بن ثابت. انظر: "المؤتلف والمختلف" (4/1971). وينظر أيضا: "تاريخ خليفة بن خياط" (635).
وقولها رضي الله عنها: ( دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ … ).
ذكرها لدخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وعدم ذكرها لوجود أحد غيرهما، لا يدل على أنها كانت وحدها، فعدم الذكر، لا يدل على عدم الوجود، فالرواة أحيانا يذكرون من القصة محل الشاهد منها ويعرضون عن كثير من تفاصيلها، ويدل على هذا؛ الحديث الثاني الذي أشرت إليه في السؤال، وهو حديث أم هانئ رضي الله عنها.
فقد رواه البخاري (4292)، ومسلم (336) (2/157): عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: " ما أخبَرَنا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هانِئٍ، فَإِنَّها ذَكَرَتْ أَنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِها، ثُمَّ صَلَّى ثَمانِيَ رَكَعاتٍ، قالَتْ: لَمْ أَرَهُ صَلَّى صَلَاةً أَخَفَّ مِنْها، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ والسُّجُودَ"، واللفظ للبخاري.
وبوّب عليه البخاري بقوله: " بابُ مَنْزِلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ ".
فهذه الرواية لوحدها ربما توهم أن أم هانئ كانت بمفردها أثناء اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، لكن إذا جمعت إليها باقي روايات هذه الحادثة، يتبيّن أنه كان هناك غيرهما.
ففي رواية لمسلم (336) (2 / 157): عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: " سَأَلْتُ، وَحَرَصْتُ عَلَى أَنْ أَجِدَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يُخْبِرُنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُحَدِّثُنِي ذَلِكَ؛ غَيْرَ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَتْنِي: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى بَعْدَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَأُتِيَ بِثَوْبٍ فَسُتِرَ عَلَيْهِ فَاغْتَسَلَ … ".
وقد رواه النسائي في "السنن الكبرى" (1 / 268)، وغيره: عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، أَنَّ أَبَاهُ، قَالَ: " إِنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرْتِنِي: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ نَازِلًا عِنْدَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَجَاءَ يَوْمًا بَعْدَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ، فَأَمَرَ بِغُسْلٍ فَسُكِبَ لَهُ، ثُمَّ سُتِرَ عَلَيْهِ فَاغْتَسَلَ …".
فهذه الرواية توضح أنه لم تكن هناك خلوة، بل كان هناك غيرهما، لقولها رضي الله عنها: " فَأُتِيَ بِثَوْبٍ فَسُتِرَ عَلَيْهِ فَاغْتَسَلَ".
وفي رواية أخرى تنص على أن الذي كان يستر النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الغسل هي ابنته فاطمة رضي الله عنها.
روى البخاري (280)، ومسلم (336) (2/157): عن مالِكٍ، عن أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَبا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هانِئ بِنْتِ أَبِي طالِبٍ أخبَرَه: " أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هانِئ بِنْتَ أَبِي طالِبٍ، تَقُولُ:ذَهَبْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عامَ الفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفاطِمَةُ تَسْتُرُهُ، فقالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنا أُمُّ هانِئ ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قَوْلُهُ: ( دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى ): ظاهره أنّ الاغتسال وقع في بيتها، ووقع في "الموطّأ" و"مسلم" من طريق: أَبِي مُرَّةَ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ: " أَنَّهَا ذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَوَجَدَتْهُ يَغْتَسِلُ " …
ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكّة، وكانت هي في بيت آخر بمكّة فجاءت إليه فوجدته يغتسل، فَيَصِحّ القولان " انتهى. "فتح الباري" (3 / 53).
الخلاصة:
ليس في هذه الأحاديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اختلى بكبشة أو أم هانئ رضي الله عنهما، بل غاية ما في حديث كبشة، أنه لم يذكر فيه هل كان هناك غيرها، وعدم الذكر لا يدل على عدم الوجود، وأما في قصة أم هانئ، فقد ورد أنه كان معهما غيرهما.
ثم قد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز خلوته بالمرأة الأجنبية، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم: (45696).
والله أعلم