أولا:
دلت السنة على جواز أن يأكل الإنسان من ثمار غيره دون أن يحمل معه، كما روى الترمذي (1287) عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً ) ورواه ابن ماجه (2301) بلفظ : ( إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً ) والحديث صححه الألباني في "صحيح الترمذي"، وابن ماجه .
وروى ابن ماجه (2300) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (إِذَا أَتَيْتَ عَلَى رَاعٍ فَنَادِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَإِنْ أَجَابَكَ وَإِلَّا فَاشْرَبْ فِي غَيْرِ أَنْ تُفْسِدَ، وَإِذَا أَتَيْتَ عَلَى حَائِطِ بُسْتَانٍ فَنَادِ صَاحِبَ الْبُسْتَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ أَجَابَكَ وَإِلَّا فَكُلْ فِي أَنْ لَا تُفْسِدَ ) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه".
قال في "تحفة الأحوذي" (4/ 424): " (ولا يتخذ خُبْنَة) وهي طرف الثوب؛ أي لا يأخذ منه شيئا في ثوبه" انتهى.
ثانيا:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فذهب الجمهور إلى المنع، إلا للمضطر، ولم يصححوا هذه الأحاديث.
وذهب الحنابلة إلى الجواز، وقيدوا ذلك بما إذا لم يكن للبستان حائط.
قال النووي رحمه الله: " (فرع) في مذاهب العلماء فيمن مر ببستان غيره وفيه ثمار، أو مر بزرع غيره:
فمذهبنا أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئا، إلا أن يكون في حال الضرورة التي يباح فيها الميتة. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة ودواد والجمهور.
وقال أحمد: إذا اجتاز به، وفيه فاكهة رطبة، وليس عليه حائط: جاز له الأكل منه من غير ضرورة، ولا ضمان عليه عنده، في أصح الروايتين. وفي الرواية الأخرى: يباح له ذلك عند الضرورة ولا ضمان...
قال الشافعي رحمه الله: ومن مر لرجل بزرع أو ثمر أو ماشية، أو غير ذلك من ماله: لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذنه؛ لأن هذا مما لم يأت فيه كتاب ولا سنة ثابتة بإباحته، فهو ممنوع؛ إلا بإذن مالكه.
قال: وقد قيل: من مر بحائط فليأكل، ولا يتخذ خبنة، ورُوي فيه حديث، لو كان ثبت عندنا لم نخالفه. والكتاب والحديث الثابت: أنه لا يجوز أكل مال أحد إلا بإذنه" انتهى من "المجموع" (9/ 54).
والحديث ثابت بمجموع طرقه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (5/ 90) : "والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها، وقد بينت ذلك في كتابي: المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة" انتهى.
وفي بيان مذهب الحنابلة، قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (9/332) :
" قال أحمد: إذا لم يكن عليها حائط: يأكل إذا كان جائعا، وإذا لم يكن جائعا، فلا يأكل.
وقال: قد فعله غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن: إذا كان عليه حائط لم يأكل؛ لأنه قد صار شبه الحريم ...
وروي عن أبي زينب التيمي قال: سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بردة، فكانوا يمرون بالثمار، فيأكلون في أفواههم. وهو قول عمر وابن عباس وأبي بردة. قال عمر: يأكل ولا يتخذ خُبنة.
وروي عن أحمد أنه قال: يأكل مما تحت الشجر، وإذا لم يكن تحت الشجر، فلا يأكل ثمار الناس وهو غني عنه. ولا يضرب بحجر ولا يرمي؛ لأن هذا يفسد...
فإن كانت مَحُوطة: لم يجز الدخول إليها؛ لقول ابن عباس: إن كان عليها حائط فهو حريم، فلا تأكل، وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس.
ولأن إحرازه بالحائط يدل على شح صاحبه به وعدم المسامحة فيه.
قال بعض أصحابنا: إذا كان عليه ناطور، فهو بمنزلة المحوط، في أنه لا يدخل إليه، ولا يأكل منه إلا في الضرورة " انتهى .
والأقرب: ما ذهب إليه الحنابلة؛ لصحة الحديث بطرقه، ولفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده.
ثالثا:
يجوز للمار أخذ الثمر من الشجر بيده، أو أخذ ما تساقط، دون أن يحمل معه، إذا لم يكن على البستان حائط، عملا بقول الحنابلة. والمذهب عندهم: لا يشترط أن يكون جائعا أو محتاجا.
قال البهوتي رحمه الله: " (ومَن مَرَّ بثمرٍ على شجر) ببستان (أو) مرَّ بثمر (ساقط تحته) أي: الشجر (لا حائطَ عليه) أي: الشجر (ولا ناظر) أي: حافظ (ولو) كان المارُّ به (غيرَ مسافر ولا مضطر، فله أن يأكل منه مجَّانًا، ولو لغير حاجة) إِلَى أكله، (ولو) أكله (عن غصونه، من غير رميه بشيء ولا ضربه، ولا صعود شجرةٍ) لما روى أبو سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتيت حائطَ بستان، فنادِ: يا صاحِبَ البُستانِ، فإنْ أجابكَ، وإلَّا؛ فكُلْ من غيرِ أن تُفْسِد" رواه أَحْمد، وابن ماجه، ورجاله ثقات؛ قاله فِي "المبدع" وروى سعيدٌ بإسناده عن الحسن، عن سَمُرة نحوه مرفوعًا، وفعلَه أنسٌ، وعبد الرحمن بن سَمُرة، وأبو برزة، وهو قول عمرَ وابن عباس.
وعلم منه أنه لا يجوز له رب بشيء، ولا ضربه، ولا صعود شجره؛ لأنه يفسده.
(واستحبَّ جمَاعة) منهم صاحب "الترغيب" (أن يُنادي) المار (قبل الأكل ثلاثًا: يا صاحبَ البستان، فإن أجابه، وإلا؛ أكل؛ للخبر) السابق.
(وكذا يُنادي للماشية) إذا أراد الشربَ من لبنها (ونحوها) كزرع قائمٍ قياسًا على الثمرة.
(ولا يحمل) من الثمرة إذا مرَّ بها، ولو بلا حائطٍ، ولا ناطورٍ؛ لقول عمر: "يأكلُ ولا يتخد خُبنةً"، وهي بضم الخاء المعجمة: ما يحمله في حِضنه.
(ولا يأكل من) ثمر (مجموع مجني)؛ لإحرازه ...
(والأولى في الثمارِ وغيرها) كالزرع، ولبن الماشية (ألا يأكل منها إلا بإذن)؛ خروجًا من الخلاف.". انتهى، من "كشاف القناع" (14/306-3110) باختصار.
رابعا:
إذا كان البستان محوطا بحائط، وسقط الثمر خارجه في الطريق، فأكثر العلماء على أنه لا يجوز أخذه؛ لأن الجمهور يمنعون الأخذ مطلقا، كما تقدم.
والحنابلة يشترطون عدم الحائط.
وذهب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى أن عدم الحائط لا يشترط.
قال رحمه الله : " اشتراط الحائط فيه نظر ؛ لأن ألفاظ الحديث : ( من دخل حائطا ) والحائط هو الذي يحيط بالشيء.
وعلى هذا؛ لا فرق بين النخل الذي ليس عليه حائط، وبين الشجر الذي عليه حائط.
فالذي تبين من السنة أن الشرط هو أن يأكل دون حمل ، وألا يرمي الشجر ، بل يأخذ بيده ، أو إذا كان ساقطا في الأرض .
وأيضا: يشترط أن ينادي صاحبه ثلاثا ، إن أجابه استأذن ، وإن لم يجبه أكل.
هذا الذي دل عليه الحديث ، وهو مما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله .
وذهب الجمهور إلى أن ذلك ليس بجائز وحملوا الأحاديث على أول الإسلام ، أو أول الهجرة ، حين كان الناس فقراء محتاجين ، وأما مع عدم الحاجة فلا يجوز ، ولكن الصحيح أنه عام " انتهى من "الشرح الممتع" (6/339).
فعلى هذا القول: يجوز أخذ ما سقط في الطريق، والأولى تركه.
ولا حرج عليه من العمل بعادة أصحاب الأشجار، فإن جرت عادتهم بأنهم يجمعون ما يسقط على الأرض ويأخذونه ، فله أن يأخذ منه بمقدار ما يأكله فقط ، ولا يحمل منه شيئا ، أما إذا جرت عادتهم بأنهم يتركون الساقط على الأرض ولا يأخذونه ، فله أن يأكل منه ويأخذ منه ما يشاء ، لأنه مال تركه صاحبه رغبة عنه ، فيجوز لأي شخص أن يأخذه .
والله أعلم.