أولاً:
ذهب الجمهور إلى أن ستر العورة شرط للطواف، مثل الصلاة، خلافاً لأبي حنيفة فيراه واجبا وليس بشرط.
قال النووي رحمه الله: "ستر العورة شرط لصحة الطواف عندنا، وعند مالك وأحمد والجمهور. وقال أبو حنيفة: ليس بشرط.
دليلنا: الحديث الذي ذكره المصنف (لا يطوف بالبيت عريان)، وهو في الصحيحين كما سبق.
وعن ابن عباس قال: (كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، وتقول: اليوم يبدو كله أو بعضه فما بدا منه فلا أحله) فنزلت (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) رواه مسلم" انتهى من "المجموع" .(8/ 19)
وذهب الحنفية أن هذا الستر واجب، وليس شرطا.
قال في "بدائع الصنائع" (2/ 129): " وأما ستر العورة، فهو مثل الطهارة عن الحدث، والجنابة؛ أي إنه ليس بشرط الجواز، وليس بفرض ، لكنه واجب عندنا ، حتى لو طاف عريا فعليه الإعادة ما دام بمكة ، فإن رجع إلى أهله فعليه الدم" انتهى.
واستدلوا بقوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) الحج/29، قالوا: أمر بالطواف مطلقا عن شرط الستر؛ فيجرى على إطلاقه.
وأجابوا عن قول ابن عباس: "الطواف بالبيت صلاة"؛ بأنه "يحمل على التشبيه ، كما في قوله تعالى: (وأزواجه أمهاتهم) [الأحزاب: 6] ؛ أي: كأمهاتهم . ومعناه: الطواف كالصلاة ، إما في الثواب ، أو في أصل الفرضية في طواف الزيارة؛ لأن كلام التشبيه لا عموم له ، فيحمل على المشابهة في بعض الوجوه ، عملا بالكتاب والسنة. أو نقول: الطواف يشبه الصلاة، وليس بصلاة حقيقة، فمن حيث إنه ليس بصلاة حقيقة لا تفترض له الطهارة، ومن حيث إنه يشبه الصلاة: تجب له الطهارة، عملا بالدليلين بالقدر الممكن" انتهى.
انظر: فتوى رقم: (316028).
وفي "المجموع" (3/ 168): "وأما عورة الحرة فجميع بدنها إلا الوجه والكفين إلى الكوعين وحكى الخراسانيون قولا وبعضهم يحكيه وجها أن باطن قدميها ليس بعورة وقال المزني القدمان ليسا بعورة" انتهى.
والمرأة أيضاً تطوف أمام الرجال، وجاء في "جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة" للألباني (ص: 80):
"إن قوله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور: 31] ؛ يدل على أن النساء يجب عليهن أن يسترن أرجلهن أيضًا. وإلا لاستطاعت إحداهن أن تبدي ما تخفي من الزينة "وهي الخلاخيل" ولاستغنت بذلك عن الضرب بالرجل، ولكنها كانت لا تستطيع ذلك، لأنه مخالفة للشرع مكشوفة، ومثل هذه المخالفة لم تكن معهودة في عصر الرسالة، ولذلك كانت إحداهن تحتال بالضرب بالرِّجْل، لتُعلم الرجال ما تُخفي من الزينة؛ فنهاهن الله تعالى عن ذلك. وبناء على ما أوضحنا قال ابن حزم في "المحلى" "3/ 216":
"هذا نص على أن الرجلين والساقين مما يخفى ولا يحل إبداؤه".
ويشهد لهذا من السنة حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبرًا" (أي: من نصف الساقين، وقيل: من الكعبين)، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن قال: "فيرخينه ذراعًا لا يزدن عليه".
أخرجه الترمذي "3/ 47" وقال: "هذا حديث حسن صحيح". [وأخرجه غيره أيضًا، وقد تكلمنا عليه في كتابنا الذي لم يتم "الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب"، ثم في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" "1864"].
وفي الحديث رخصة للنساء في جر الإزار؛ لأنه يكون أستر لهن. وقال البيهقي:
"وفي هذا دليل على وجوب ستر قدميها". وذكر نحوه الشوكاني في "نيل الأوطار" "2/ 59"..
وعلى هذا جرى العمل من النساء في عهده -صلى الله عليه وسلم- وما بعده، وترتب عليه بعض المسائل الشرعية. فقد أخرج مالك وغيره عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؟ قالت أم سلمة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يطهره ما بعده".
وعن امرأة من بني عبد الأشهل قالت:
"قلت: يا رسول الله إن لنا طريقًا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ قال: "أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ "، قالت: قلت: بلى، قال: "فهذه بهذه" أخرج هذا والذي قبله: أبو داود في "سننه"، وهذا إسناده صحيح، وصححه المنذري، وما قبله صحيح لغيره، وصححه ابن العربي، وحسنه ابن حجر الهيتمي، وقد بينت ذلك في "صحيح سنن أبي داود "رقم 407 و408"انتهى .
وانظر: فتوى رقم: (404291)" .
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (1/ 349) تعليقا على قول أم سلمة : فكيف يصنع النساء بذيولهن ؟ ... إلخ :
"وهذا يدل على وجوب تغطية القدمين، ولأنه محل لا يجب كشفه في الإحرام ؛ فلم يجب كشفه في الصلاة، كالساقين" انتهى.
والحاصل:
أن الراجح أن ظاهر القدمين من العورة، وأنه يجب ستر القدمين على المرأة في الطواف.
وقد سبق بيان الخلاف في ستر القدمين في الصلاة، وهو أصل الخلاف في وجوب سترهما في النسك. ينظر جواب السؤال رقم : (193034) ورقم: (404291).
ثانياً:
وأما عن ما مضى من العُمَرات: فنرجو ألا يلزمكن شيء فيها، وأنها صحت منكن؛ لأنكن جاهلات، ولأن المسألة خلافية، ويعذر بالجهل في المسائل الخلافية ما لا يُعذر في المسائل المجمع عليها.
فما دام أن هذه العُمَر قد انتهت، ومر عليها زمان: فنرجو أن يكون ما سبق منها صحيحا، وألا يلزمكن شيء.
وفي "حواشي الشرواني على تحفة المحتاج" (4/ 142): " قال الشيخ منصور الطبلاوي: سئل شيخنا سم [وهو ابن قاسم العبادي] عن امرأة شافعية المذهب ، طافت للإفاضة بغير سترة معتبرة، جاهلة بذلك ، أو ناسية، ثم توجهت إلى بلاد اليمن ، فنكحت شخصا ، ثم تبين لها فساد طوافها ، فأرادت أن تقلد أبا حنيفة لتصير به حلالا ، وتتبين صحة النكاح ، وحينئذ: فهل يصح ذلك ، ويتضمن صحة التقليد بعد العمل؟
فأفتى بالصحة ، وأنه لا محذور في ذلك .
ولما سمعت عنه ذلك اجتمعت به، فإني كنت أحفظ عنه خلافه في العام الذي قبله ، فقال: هذا هو الذي اعتقده، وأفتى به بعض الأفاضل أيضا تبعا له، وهي مسألة مهمة كثيرة الوقوع، وأشباهها.
ومراده بأشباهها: كل ما كان مخالفا لمذهب الشافعي مثلا، وهو الصحيح على بعض المذاهب المعتبرة، فإذا فعله على وجه فاسد عند الشافعي، وصحيح عند غيره، ثم علم بالحال؛ جاز له أن يقلد القائل بصحته فيما مضى، وفيما يأتي، فتترتب عليه أحكامه؛ فتنبه له، فإنه مهم جدا، وينبغي: أن إثم الإقدام باق، حيث فعله عالما ع ش [أي علي الشبراملسي]" انتهى.
انظر: فتوى: (316028).
ثالثا:
المسائل الخلافية لا سيما في العبادات، فإنه لا يشترك فيها غالب الناس، فيعذر الجاهل فيها.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله في "فتاوى نور على الدرب" (1/ 244):
"أما المسائل التي قد تخفى في بعض الأحيان على بعض الناس كبعض أحكام الصلاة أو بعض أحكام الزكاة أو بعض أحكام الحج، هذه قد يعذر فيه بالجهل. ولا حرج في ذلك؛ لأنها تخفى على كثير من الناس، وليس كل واحد يستطيع الفقه فيها، هذه المسائل أمرها أسهل.
والواجب على المؤمن أن يتعلم ويتفقه في الدين ويسأل أهل العلم، كما قال الله سبحانه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ سورة النحل/ الآية 43.، ويروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لقوم أفتوا بغير علم: ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال (أخرجه أبو داود، برقم 336) ، وقال عليه الصلاة والسلام: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (أخرجه البخاري، برقم 71)" انتهى.
وقال في "فتاوى نور على الدرب" (1/ 247):
"وقد يكون معذورا أيضا في الأشياء الخفية في الفروع، التي قد تخفى على مثله، كما عذر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الجبة لما تضمخ بالطيب وقد أحرم بالعمرة، قال له عليه الصلاة والسلام: انزع عنك الجبة، واغسل عنك الخلوق، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجتك (أخرجه البخاري برقم 1789، ومسلم ، برقم 1180)، ولم يأمره بفدية عن لبسه الجبة ولا عن تضمخه بالطيب للجهل.
والله أعلم.