أولاً:
جُملةُ أصحابِ بدر، مُقدَّمون في الفضل على من سواهم من المهاجرين والأنصار.
روى البخاري في صحيحه (3992) عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ، قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ المُسْلِمِينَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ المَلاَئِكَةِ ".
قال ابنُ أبي زَيدٍ القَيروانيُّ: "خَيرُ القُرونِ قَرنُ الصَّحابةِ، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، كما قال النَّبيُّ عليه السَّلامُ، وأنَّ أفضَلَ الأمَّةِ بَعدَ نَبيِّها أبو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمرُ، ثُمَّ عُثمانُ، ثُمَّ عليٌّ... ثُمَّ بَقيَّةُ العَشَرةِ، ثُمَّ أهْلُ بَدرٍ مِنَ المُهاجِرينَ ثُمَّ مِنَ الأنصارِ ومِن جَميعِ أصحابِه عَلى قَدْرِ الهِجْرةِ والسَّابِقةِ والفَضيلةِ" انتهى من " يُنظر: "الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ" (ص 115)".
وروى البخاري في صحيحه (3992) عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، وَكَانَ رِفَاعَةُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَكَانَ رَافِعٌ مِنْ أَهْلِ العَقَبَةِ، فَكَانَ يَقُولُ لِابْنِهِ: مَا يَسُرُّنِي أَنِّي شَهِدْتُ بَدْرًا، بِالعَقَبَةِ ... "
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (7/ 313):
"والذي يظهر أن رافع بن مالك لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم التصريح بتفضيل أهل بدر على غيرهم، فقال ما قال باجتهاد منه، وشبهته أن العقبة كانت منشأ نصرة الإسلام، وسبب الهجرة التي نشأ منها الاستعداد للغزوات كلها، لكن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله أعلم" انتهى.
ثانياً:
ثبت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ , قَالَ: هُمْ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
رواه أحمد (3321)، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/130، وابن أبي شيبة 12/155-156 و14/334، والنسائي في "الكبرى" (11072) , وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
ثالثاً:
من هاجر إلى الحبشة ثم هاجر إلى المدينة: فله فضل هجرتين. بخلاف من هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقط، فلهم أجر هجرة واحدة.
روى البخاري (4230)، ومسلم (2502) في صحيحيهما عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِاليَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ، وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ: بِضْعٌ، وَإِمَّا قَالَ: فِي ثَلاَثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ.
وَكَانَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ لَنَا، يَعْنِي لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: سَبَقْنَاكُمْ بِالهِجْرَةِ، وَدَخَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَهِيَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَنَا، عَلَى حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَةً، وَقَدْ كَانَتْ هَاجَرَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِيمَنْ هَاجَرَ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى حَفْصَةَ، وَأَسْمَاءُ عِنْدَهَا، فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، قَالَ عُمَرُ: الحَبَشِيَّةُ هَذِهِ؟ البَحْرِيَّةُ هَذِهِ؟
قَالَتْ أَسْمَاءُ: نَعَمْ، قَالَ: سَبَقْنَاكُمْ بِالهِجْرَةِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ، فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ، كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي دَارِ - أَوْ فِي أَرْضِ - البُعَدَاءِ البُغَضَاءِ بِالحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَايْمُ اللَّهِ لاَ أَطْعَمُ طَعَامًا وَلاَ أَشْرَبُ شَرَابًا، حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى وَنُخَافُ، وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْأَلُهُ، وَاللَّهِ لاَ أَكْذِبُ وَلاَ أَزِيغُ، وَلاَ أَزِيدُ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ عُمَرَ قَالَ: كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: فَمَا قُلْتِ لَهُ؟ قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: كَذَا وَكَذَا
قَالَ: لَيْسَ بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ، وَلَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ أَنْتُمْ - أَهْلَ السَّفِينَةِ - هِجْرَتَانِ.
قَالَتْ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أَرْسَالًا، يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلاَ أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَإِنَّهُ لَيَسْتَعِيدُ هَذَا الحَدِيثَ مِنِّي" .
فالذين هاجروا إلى الحبشة ثم المدينة لهم فضل هجرتين، فهم من جهة الهجرة: أفضل ممن أدرك بدراً وهاجر هجرة المدينة فقط.
لكن لا يلزم من التفضيل من حيثية الهجرة، التفضيل المطلق.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (7/ 486):
"وظاهره تفضيلهم على غيرهم من المهاجرين؛ لكن لا يلزم منه تفضيلهم على الإطلاق، بل من الحيثية المذكورة" انتهى. يعني من حيثية الهجرة.
رابعاً:
المهاجرون السابقون أفضل من المتأخرين، وكُلٌّ له فضله.
قال اللهُ سُبحانَه: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) التوبة/100.
قال الشَّوكانيُّ رحمه الله : (في الآيةِ تَفضيلُ السَّابِقينَ الأوَّلينَ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وهمُ الَّذينَ صَلَّوا القِبْلَتينِ في قَولِ سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ وطائِفةٍ، أوِ الَّذينَ شَهِدوا بيعةَ الرِّضوانِ، وهيَ بيعةُ الحُدَيبيَةِ في قَولِ الشَّعبيِّ، أو أهْلُ بَدرٍ في قَولِ مُحَمَّدِ بنِ كَعبٍ وعَطاءِ بْنِ يَسارٍ، ولا مانِعَ من حَملِ الآيةِ عَلى هَذِه الأصنافِ كُلِّها، قال أبو مَنصورٍ البَغداديُّ: أصحابُنا مُجْمِعونَ عَلى أنَّ أفضَلَهمُ الخُلفاءُ الأربَعةُ، ثُمَّ السِّتَّةُ الباقونَ، ثُمَّ البَدريُّون، ثُمَّ أصحابُ أُحُدٍ، ثُمَّ أهْلُ بَيعةِ الرِّضوانِ بالحُدَيبيَةِ...
ومَعنى الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ: الَّذينَ اتَّبَعوا السَّابِقين الأوَّلين مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وهمُ المُتَأخِّرونَ عنهم مِنَ الصَّحابةِ فمَن بَعدَهُم إلى يَومِ القيامةِ، ولَيسَ المُرادُ بهِم التَّابِعينَ اصطِلاحًا، وهم كُلُّ من أدرَك الصَّحابةَ ولَم يُدرِكِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بَل هم من جُملةِ مَن يَدخُلُ تَحتَ الآيةِ، فتَكونُ (مِن) في قَولِه: مِنَ الْمُهَاجِرينَ عَلى هَذا لِلتَّبعيضِ، وقيلَ: إنَّها لِلبَيانِ، فيَتَناوَلُ المَدحُ جَميعَ الصَّحابةِ، ويَكونُ المُرادُ بالتَّابِعينَ: مَن بَعدَهُم مِنَ الأمَّةِ إلى يَومِ القيامةِ) انتهى من "فتح القدير" (2/453).
خامساً:
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من خيرة الصحابة وأفاضلهم، لكننا نكتفي بالتفضيل العام، ولا نخوض في المفاضلة بين أفراد الصحابة رضوان الله عليهم، إلا فيما ثبت بدليل صحيح.
عن البراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لجَعفَرٍ: "أشبَهْتَ خَلْقِي وخُلُقِي" رواه البخاري (2699). .
قال القَسْطلَّاني رحمه الله: "هي منقبةٌ عظيمةٌ لجَعفَرٍ على ما لا يخفى" انتهى من "شرح القسطلاني" (6/381).
عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: أمَّر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ مُؤتةَ زَيدَ بنَ حارِثةَ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إن قُتِلَ زيدٌ فجَعفَرٌ، وإن قُتِلَ جَعفَرٌ فعبدُ اللهِ بنُ رواحةَ، قال عبدُ اللهِ: كنتُ فيهم في تلك الغزوةِ، فالتمَسْنا جَعفَرَ بنَ أبي طالبٍ فوجَدْناه في القَتْلى، ووجَدْنا ما في جَسَدِه بضعًا وتسعينَ مِن طعنةٍ ورَمْيةٍ"! رواه البخاري (4261).
وفي روايةٍ عن نافعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ أخبره أنَّه وقف على جعفَرٍ يومَئذٍ وهو قتيلٌ، قال: فعَدَدْتُ به خمسين بين طعنةٍ وضربةٍ، ليس منها شيءٌ في دُبُرِه، يعني: في ظَهْرِه. رواه البخاري (4260).
سادساً:
لا ينبغي أن ينشغل المسلم كثيرا بتفضيل الأشخاص، لا سيما السلف الماضين، فإن ذلك لا يترتب عليه كثير عمل. وما لم يقف من ذلك عند حد ما ورد النص به، أشكل عليه الأمر، وألبس، وربما قال على الله، وفي أولياء الله، ما ليس له به علم؛ فإن الفضائل لا تدرك بقياس ولا نظر، وإنما مردها إلى ما صح من الخبر.
قال ابن عبد البر: (وقد أجمع علماء المسلمين أن الله تعالى لا يسألُ عباده يوم الحساب من أفضَلُ عبادي؟ ولا هل فلان أفضلُ من فلان؟ ولا ذلك مما يُسألُ عنه أحد في القبر، ولكِن رسول الله قد مدح خصالًا، وحَمِد أوصافًا؛ من اهتدى إليها حاز الفضائِلَ، وبقدر ما فيه منها، كان فضلُه في ظاهر أمره على من لم ينَلْها، ومن قصر عنها، لم يبلغ من الفضل منزلةَ من ناله، هذا طريق التفضيل في الظاهر عند السَّلَف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان" انتهى من "الاستذكار" (5/107).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
"الأحكام الشرعية تقوم عليها أدلة شرعية فيمكن معرفة الحق فيها بالعلم والعدل.
وأما تفضيل الأشخاص، بعضهم على بعض: ففي كثير من المواضع لا يسلم صاحبه عن قول بلا علم واتباع لهواه، فللشيطان فيه مجال رحب" "الإخنائية" (197).
والله أعلم.