أولاً:
الرياء: إنما يكون في العبادات المحضة التي شرعها الله ورسوله للناس، من طاعات وعبادات مثل الصلاة والصيام والذكر والحج، ونحو ذلك من العبادات؛ فمن فعل شيئا منها لأجل رياء للناس؛ فلا شيء له من الأجر على الذي عمله، لأنه لم يعمله خالصا لله، بل يأثم، زيادة على حرمانه من الأجر، لأجل نيته الفاسدة. فإن هذه العبادات إنما شُرعت لتعظيم الله وحدَه، وتشريك غير الله الذي شرعت لأجله في النية، من الشرك الأصغر الذي يفسد العبادة كلها أو بعضها.
أما الأعمال التي هي من العادات التي وُضعت لمصالح الدنيا مثل، فإن فعلها لأجل الناس لا يوقع في الإثم، لكنه يُسقط الأجر، لأن الثواب في هذه الأعمال مشروط بإخلاص النية.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله:
«تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس: مراءاةٌ، وهو ليس بحرام؛ لأنه ليس رياء بالعبادة، بل بالدنيا.
وقس على هذا كلَّ ما تجمل للناس، وتزين لهم» انتهى من إحياء علوم الدين (3/ 300).
قال الشاطبي رحمه الله:
"إذا كان العمل إصلاحا للعادات الجارية بين العباد، كالنكاح، والبيع، والإجارة، وما أشبه ذلك من الأمور التي عُلم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد في العاجلة= فهو حظ أيضًا، قد أثبته الشارع، وراعاه في الأوامر والنواهي، وعُلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة له. وإذا علم ذلك بإطلاق، فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع، فكان حقا، وصحيحًا. هذا وجه.
ووجه ثان: أنه لو كان طلب الحظ في ذلك قادحا في التماسه وطلبه، لاستوى مع العبادات، كالصيام والصلاة وغيرهما، في اشتراط النية والقصد إلى الامتثال؛ وقد اتفقوا على أن العادات لا تفتقر إلى نية. وهذا كاف في كون القصد إلى الحظ، لا يقدح في الأعمال التي يَتسبب عنها ذلك الحظ. بل لو فرضنا رجلا تزوج ليرائي بتزوجه، أو ليُعد من أهل العفاف، أو لغير ذلك: لصح تزوجه، من حيث لم يُشرع فيه نيةُ العبادة، من حيث هو تزوج، فيقدحَ فيها الرياءُ والسمعة، بخلاف العبادات المقصود بها تعظيم الله تعالى مجردًا» انتهى من الموافقات (2/ 374).
وقال الخادمي رحمه الله:
اعلم أن الرياء بعمل الدنيا، كما أشير إليه سابقا، كالشجاعة والحِذاقة في نحو الكتابة والخياطة وغيرها مما وضع لعمل الدنيا: لا يحرم، إن خلا عن التلبيس، بأن يُظهر الشجاعة في أمر، وليس له شجاعة في الواقع انتهى من بريقة محمودية (2/ 106).
ثانياً:
إذا عمل المرء العمل الصالح الذي هو من العبادات المشروعة، لا يريد به وجه الله، وإنما يريد به الحصول على الرضا النفسي، مثل الذي يقرأ القرآن لتهدئة أعصابه، أو يتصدق ليشعر بالأمان وليس له نية الامتثال والتعبد أو الحصول على الأجر: فهذا العمل باطل؛ لأنها عبادة تفتقر إلى نية لقبولها وحصول ثوابها، فيتحول العمل العبادي إلى عادة.
وفي الحديث: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) رواه البخاري (1) ومسلم (1907).
فالهجرة عبادة يحصل ثوابها بوجود نية الامتثال، وإرادة وجه الله. فإذا أراد بها غرضا آخر فهو وما أراد، وليس له أجرها ولم تقبل منه.
قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قال ابن جرير الطبري: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا الْتِمَاسَ الدُّنْيَا صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ تَهَجُّدًا بِاللَّيْلِ لَا يَعْمَلُهُ إِلَّا لِالْتِمَاسِ الدُّنْيَا ؛ يَقُولُ اللَّهُ : أُوَفِّيهِ الَّذِي الْتَمَسَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَثَابَةِ ، وَحَبِطَ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ الْتِمَاسَ الدُّنْيَا ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " انتهى من " تفسير الطبري" (12/347).
وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله:
"فأما إذا كان الباعثُ عليها -أي العبادة-غير ذلك من أعراض الدُّنيا؛ فلا يكونُ عبادة، بل يكون مصيبة موبقة لصاحبها، فإما كفرٌ، وهو: الشرك الأكبر، وإما رياء، وهو: الشركُ الأصغر. ومصيرُ صاحبه إلى النار...
هذا إذا كان الباعثُ على تلك العبادة الغرضَ الدنيوي وحده، بحيث لو فُقِد ذلك الغرضُ لتُرِك العمل.
فأما لو انبعث لتلك الحالة لمجموع الباعثَينِ- باعث الدنيا وباعث الدين-؛ فإن كان باعثُ الدنيا أقوى، أو مساويًا فالحكم بإبطال ذلك عند أئمة هذا الشأن، وعليه يدل قولُه -صلى الله عليه وسلم- حكاية عن الله تبارك وتعالى: (مَن عَمِل عملًا أشركَ معي فيه غيري تركتُه وشريكه) انتهى باختصار يسير من "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 742).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (228454) ورقم (224589) ورقم (182642)
ثالثاً:
أما إذا أراد المرء بعمله الصالح التعبد لله ابتداء، وبالقصد الأول، ثم حصول النفع الدنيوي تبعا فهذا ليس من الرياء المذموم، ولا هو مما يحرم العبد ثواب عمله، وذلك من فضل الله الذي يجمع لعباده في العبادة بين المصالح الدنيوية والأخروية، وليس من الرياء والشرك الأصغر.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَن سرَّه أن يُبسط له في رزقه ، أو يُنسأ له في أثره ، فليصِل رحِمَه ) رواه البخاري (1961).
وقال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه وقد جاءه يسأله مهر زوجته ، فقال : ( مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ ) ، قَالَ : فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِى عَبْسٍ ، بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ. رواه مسلم (3551) ،
فقد وعده النبي صلى الله عليه وسلم : أنه إذا حضرت غزوة ، سوف يبعثه فيها ، لعله يحصل له من غنائمها، ما يستعين به على مهره ، وهذا جمع ظاهر بين نية الجهاد ، لنشر التوحيد ، ولتكون كلمة الله هي العليا ، والخروج في ذلك البعث لتحصيل الرزق .
- وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - عام حنين – : (من قتل قتيلا له عليه بيّنة فله سلَبه) رواه البخاري ( 2973 )، ومسلم (1751)، و(السلب) هو ما على المقاتل من ثياب وسلاح ونحو ذلك.
قال الشيخ محمد بن علي حسين، مفتي المالكية في مكة، رحمه الله:
"الفرق بين قاعدة الرياء في العبادات، وبين قاعدة التشريك في العبادات، من حيث إن التشريك فيها لا يحرم بالإجماع، بخلاف الرياء فيها فيحرم:
هو أن التشريك فيها: لما كان بما جعله الله تعالى للمكلف في هذه العبادة، مما لا يَرى ولا يُبصِر، كمن جاهد ليحصل طاعة الله بالجهاد، وليحصل السبايا والكراع والسلاح من جهة أموال العدو، وكمن حج وشرَّك في حجه غرض المتجر، بأن يكون جُل مقصوده، أو كله: السفر للتجارة خاصة، ويكون الحج إما مقصودا مع ذلك، أو غير مقصود، وإنما يقع تابعا اتفاقا. وكمن صام ليصح جسده، أو ليحصل زوال مرض من الأمراض التي تداوَى بالصوم، بحيث يكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده، والصوم مقصود مع ذلك. وكمن يتوضأ بقصد التبرد أو التنظيف=
لم يضره في عبادته، ولم يحرم عليه بالإجماع؛ لأن جميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخالق، بل هي تشريك أمور من المصالح، ليس لها إدراك، ولا تصلح للإدراك ولا للتعظيم؛ فلا تقدح في العبادات، إذ كيف تقدح وصاحب الشرع قد أمر بها في قوله صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي قاطع نعم إذا تجردت العبادة عن هذه الأغراض زاد الأجر وعظم الثواب وإذا لم تجرد العبادة عنها نقص الأجر وإن كان لا سبيل إلى الإثم والبطلان. " انتهى من "تهذيب الفروق" (3/ 36-37). وينظر تمام البحث في أصله: "الفروق" للقرافي، الفرق الثاني والعشرون بعد المائة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حسنى الدنيا، وحسنى الآخرة فلا شيء عليه في ذلك؛ لأن الله يقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وهذا ترغيب في التقوى بأمر دنيوي" انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (2/ 208).
وينظر أيضا للفائدة: جواب السؤال رقم: (353014)، ورقم: (112075).
رابعاً:
من يمتنع عن ارتكاب المعاصي أمام الناس خوفًا من إحراج نفسه أمامهم، لكنه عندما يكون بمفرده لا يشعرُ بخوف الله ولا يتردَّد في ارتكاب تلك المعاصي، فهذا من الرياء وغير مأجور على تركه، بل قد يأثم على ذلك؛ لأن ترك المعصية عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله .
قال ابن رجب رحمه الله :
" فأما إن همّ بمعصية، ثم ترك عملها خوفا من المخلوقين، أو مراءاة لهم ، فقد قيل : إنه يعاقب على تركها بهذه النية ؛ لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم ، وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم ، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله عوقب على هذا الترك " انتهى من " جامع العلوم والحكم" (2/321).
وقال ابن القيم رحمه الله :
"من يتركها -المعاصي- لغير الله لا لله، فهذا يعاقب على تركه لغير الله، كما يعاقب على فعله لغير الله، فإن ذلك الترك والامتناع فعل من أفعال القلب ، فإذا عبد به غير الله استحق العقوبة " انتهى من " شفاء العليل " (ص:170).
وينظر الفتوى: (180814)، ورقم: (99324) ففيهما تفصيل نافع.
وخلاصة القول:
أنّ العبادات التي شُرعت لتعظيم الله، كالصلاة والصيام يُعد الرياء فيها من الشرك الأصغر المفسد للعمل، أما العادات والمنافع الدنيوية، فإظهارها للناس لا إثم فيها، ولكن يذهب بثوابها.
أما من قصد بعمله وجه الله وطلب معه حصول بعض المصالح الدنيوية تبعًا، فذلك جائز مأجور عليه، إذ لا يُنافي الإخلاص.
ومن يمتنع عن ارتكاب المعاصي أمام الناس خوفًا من إحراج نفسه أمامهم، لكنه عندما يكون بمفرده لا يشعرُ بخوف الله ولا يتردَّد في ارتكاب تلك المعاصي، فهذا من الرياء وغير مأجور على تركه.
والله أعلم.