أولا:
يلزم الأولاد-ذكورا وإناثا-النفقة على الوالدين الفقيرين، ولو كانا قادرين على الكسب.
قال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين، اللذين لا كسب لهما ولا مال: واجبة في مال الولد " انتهى نقلا من "المغني" (8/212).
وقال ابن القطان رحمه الله: " وأجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال، واجبة في مال الولد" انتهى من "الإقناع في مسائل الإجماع" (2/ 55).
وقال السرخسي في "المبسوط" (5/ 222): " ويجبر الرجل الموسِر على نفقة أبيه وأمه، إذا كانا محتاجين؛ لقوله تعالى: فلا تقل لهما أف [الإسراء: 23] نهى عن التأفيف لمعنى الأذى، ومعنى الأذى في منع النفقة عند حاجتهما أكثر؛ ولهذا يلزمه نفقتهما، وإن كانا قادرين على الكسب؛ لأن معنى الأذى في الكد والتعب أكثر منه في التأفيف. وقال صلى الله عليه وسلم: إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده لمن كسبه؛ فكلوا مما كسب أولادكم.
وإذا كان الأولاد ذكورا وإناثا موسرين، فنفقة الأبوين عليهم بالسوية، في أظهر الروايتين.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن النفقة بين الذكور والإناث للذكر مثل حظ الأنثيين، على قياس الميراث، وعلى قياس نفقة ذوي الأرحام" انتهى.
وفي "المجموع" (18/ 299): "وإن كان صحيحا، إلا أنه غير مكتسب، فإن كان من الوالدين ففيه قولان: أحدهما: تجب نفقته على الولد الموسر، وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لأنه محتاج إلى الإنفاق فأشبه الزمن.
والثانى: لا تجب نفقته على الولد؛ لأنه قادر على الاكتساب، فأشبه المكتسب" انتهى.
وقال في "كفاية الأخيار"، ص438: "وَإِنَّمَا تجب نَفَقَة الْوَالِدين بِشُرُوط:
مِنْهَا: يسَار الْوَلَد. والمُوسر: من فَضَل عَن قوته وقوت عِيَاله، فِي يَوْمه وَلَيْلَته: مَا يصرفهُ إِلَيْهِمَا، فَإِن لم يفضل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ؛ لإعساره...
وَمِنْهَا: أَي من الشُّرُوط: أَن لَا يكون لَهما مَال، فَإِن كَانَ، ويكفيهما: فَلَا تجب، سَوَاء كَانَا زمِنين، أَو مجنونين، أَو بهما مرض وعمىً، أم لَا؛ لعدم الْحَاجة.
وَمِنْهَا: أَن لَا يَكُونَا مكتسبين، فَإِن كَانَا مكتسبين لم تجب نفقتهما؛ لِأَن الِاكْتِسَاب بِمَنْزِلَة المَال العتيد [العتيد: الحاضر].
فَلَو كَانَا صَحِيحَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُمَا غير مكتسبين، فَهَل يكلفان الْكسْب؟
فِيهِ قَولَانِ: أصَحهمَا فِي التَّنْبِيه: لَا تجب، للقدرة على الْكسْب.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تجب؛ لقَوْله تَعَالَى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً؛ وَلَيْسَ من المصاحبة بِالْمَعْرُوفِ: تكليفهما الْكسْب، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ، وَمِنْهُم من قطع بِهِ " انتهى.
وينظر: "المغني" (8/ 215).
وعلى هذا؛ فإذا كان لك مال فاضل عن حاجتك، وكان والدك لا مال له، لزمك الإنفاق عليه، ولو كان قادرا على الكسب.
ولا يلزمك إعطاؤه جميع راتبك، وإنما تعطينه قدر ما يحتاج لطعامه وشرابه ولباسه وسكنه هو ووالدتك؛ أو تنفقين أنت ما يحتاجانه في ذلك.
ثانيا:
لا حرج في نصح الوالد بالعمل، أو السعي في توفير عمل له، دون إلحاح أو إيذاء له.
ولتعلمي أن أجر الإنفاق على الوالدين عظيم، وهو من أفضل الصدقات، فاحتسبي ذلك، وأيقني أن الصدقة تبارك المال وتنميه، وأنه لا ينقص مال من صدقة.
روى مسلم (995) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ.
وروى مسلم (4689) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ.
والأب سبب وجود الولد، وهو من عمله وكسبه، فلا عجب أن جعل له الشرع حقا في مال ولده.
روى أحمد (6678)، وأبوداود (3530)، وابن ماجه (2292) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي مالا وولدا، وإن والدي يجتاح مالي قال: أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ، إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَمْوَالَ أَوْلَادِكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوهُ هَنِيئًا وله طرق وشواهد يصح بها، وينظر: "فتح الباري" (5/ 211)، و "نصب الراية" (3/ 337).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوْلَادَكُمْ هِبَةٌ اللهِ لَكُمْ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، فَهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إِذَا احْتُجْتُمْ إِلَيْهَا رواه الحاكم (2/ 284)، والبيهقي (7/ 480)، والحديث صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2564).
رابعا:
قولك: " وهل بإمكاني أن اعطيه جزءا منه فقط حتى يتأدب ويذهب لحل مشكلتنا بجدية": قول منكر، وقبيح من القول، وما كان ينبغي أن يصدر منك، ولا أن تسمحي لنفسك أو لغيرك أن يقوله عن والدك، فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، والوالد حقه عظيم، فمهما قصر، فلا يسقط حقه في البر والإحسان إليه، والأدب معه، والإنفاق عليه.
رزقنا الله وإياك البر والإحسان، ووقانا شرور أنفسنا.
والله أعلم.