أولا :
لست مدينة لعمك بشيء؛ لأن هذا الرجل أعطاك المال على أنه هبة ، وليس على أنه ثمن دار جدة والدك.
ويجب على الغاصب أن يرد المال المغصوب إلى صاحبه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لاَ يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لاَعِبًا وَلاَ جَادًّا ، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا رواه أبو داود (5005)، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1518) .
ثانيا :
الواجب في رد المال المغصوب إلى صاحبه أن يعطى له بأي طريقة على سبيل التمليك المطلق، فلا يقيد فيه تصرفه بشيء، ولا يكون على صاحبه منة لأحد، ولا يشترط أن يعلمه أن هذا المال مغصوب منه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " … فإذا سرقتَ من شخصٍ أو من جهة ما سرقةً : فإن الواجب عليك أن تتصل بمن سرقت منه وتبلغه وتقول إن عندي لكم كذا وكذا ، ثم يصل الاصطلاح بينكما على ما تصطلحان عليه ، لكن قد يرى الإنسان أن هذا الأمر شاق عليه وأنه لا يمكن أن يذهب – مثلاً – إلى شخص ويقول أنا سرقت منك كذا وكذا وأخذت منك كذا وكذا ، ففي هذه الحال يمكن أن توصل إليه هذه الدراهم – مثلاً – من طريق آخر غير مباشر مثل أن يعطيها رفيقاً لهذا الشخص وصديقاً له ، ويقول له هذه لفلان ويحكي قصته ويقول أنا الآن تبت إلى الله – عز وجل – فأرجو أن توصلها إليه .
وإذا فعل ذلك فإن الله يقول : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) الطلاق / 2 ، ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ) الطلاق / 4 .
فإذا قُدِّر أنك سرقتَ من شخصٍ لا تعلمه الآن ولا تدري أين هو : فهذا أيضاً أسهل من الأول ؛ لأنه يمكنك أن تتصدق بما سرقتَ بنيَّة أنه لصاحبه ، وحينئذٍ تبرأ منه .
إن هذه القصة التي ذكرها السائل توجب للإنسان أن يبتعد عن مثل هذا الأمر ؛ لأنه قد يكون في حال طيش وسفهٍ، فيسرق ولا يهتم ، ثم إذا منَّ الله عليه بالهداية يتعب في التخلص من ذلك " انتهى من " فتاوى إسلاميَّة " ( 4 / 162) .
ثالثا :
بناء على ما سبق في الفقرة (ثانيا) فإذا وصل المال المغصوب إلى صاحبه ، ولم يكن له مطلق الحرية في التصرف فيه ، بل قيد تصرفه بوجه معين ، فإن الغاصب لا يبرأ بهذا ، بل يبقى المال المغصوب متعلقا بذمته يجب عليه رده .
قال ابن القيم رحمه الله :
"ومن الحيل الباطلة: إذا غصبه طعاما، ثم أراد أن يبرأ منه، ولا يعلمه به: فليدعه إلى داره، ثم يقدم له ذلك الطعام، فإذا أكله برئ الغاصب .
وهذه الحيلة باطلة ، فإنه لم يملكه إياه ، ولا مكنه من التصرف فيه ، فلم يكن بذلك رادا لعين ماله إليه .
فإن قيل : فما تقولون لو أهداه إليه، فقبله ، وتصرف فيه ، وهو لا يعلم أنه ماله ؟
قيل : إن خاف من إعلامه به ضررًا يلحقه منه: برئ بذلك .
وإن لم يخف ضررا، وإنما أراد المنة عليه، ونحو ذلك: لم يبرأ .
ولا سيما إن كافأه على الهدية، فقبل: فهذا لا يبرأ قطعا" انتهى، "أعلام الموقعين" (3/307) .
فعلى فرض أن هذا الرجل جاء بالمال هدية لكم، بدلا من حقكم في تلك الدار ، لم يجزئه ، ولا تبرأ ذمته بذلك ، لأنه قيَّد تصرفكم في المال بوجه معين ، وهو العمرة ، وهذا التمليك المقيد لا تبرأ به ذمته .
رابعا :
إذا كان هذا الرجل غاصبا فلا تبرأ ذمته برد المال بهذه الطريقة لسبب آخر ، وهو أن الواجب عليه رد الدار نفسها ، أما رد المال، فهو معاوضة على هذه الدار (أي : شراء لها منكم) ، ولا يصح ذلك إلا برضاكم ، لأن البيع لا يصح إلا برضى الطرفين ، لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ النساء/29 .
وروى ابن ماجه (2185) عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ وصححه الألباني.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله : (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) النساء/29" انتهى من "الفتاوى الكبرى"(4/5).
وإنما يصح رد القيمة إذا تعذر رد الدار ، بأن كانت قد بيعت ، وتعذر استردادها من المشتري ، أو كانت قد هدمت وأعيد بناؤها ، ففي هذه الحالة يجوز رد القيمة ، ولكن لا ينفرد الغاصب بتحديد القيمة التي يردها ، كما أن الواجب في هذه الحالة أن يرد الدار بقيمتها يوم ردها ، لا يوم الاستيلاء عليها ، ولا يوم بيعها إن كان قد باعها .
قال ابن قدامة رحمه الله :
"فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ بَاقِيًا ، وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ ، فَأَوْجَبْنَا رَدَّ قِيمَتِهِ ، فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهَا ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ" انتهى، "المغني" (7/405) .
والحاصل :
أنه على فرض أن هذا الرجل كان قد غصب داركم ، فلا تبرأ ذمته بما أهداه لكم من المال ، بل يبقى حقكم متعلقا بذمته، تستوفونه في الدنيا، أو في الآخرة.
والله أعلم.