قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجرّد من قميصه حال تغسيله، تكريما وتشريفا له صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام أحمد في "المسند" (43 / 331)، وأبو داود (3141): عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، تَقُولُ: " لَمَّا أَرَادُوا غُسْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا نَدْرِي كَيْفَ نَصْنَعُ، أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَمْ نَغْسِلُه وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ؟ قَالَتْ: فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ السِّنَةَ حَتَّى وَاللهِ مَا مِنَ الْقَوْمِ مِنْ رَجُلٍ إِلَّا ذَقَنُه فِي صَدْرِهِ نَائِمًا، قَالَتْ: ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ، فَقَالَ: اغْسِلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، قَالَتْ: فَثَارُوا إِلَيْهِ، فَغَسَّلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي قَمِيصِهِ يُفَاضُ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَالسِّدْرُ، وَيَدْلُكُه الرِّجَالُ بِالْقَمِيصِ، وَكَانَتْ تَقُولُ: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنَ الْأَمْرِ مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا نِسَاؤُهُ".
وقال محققو المسند: " إسناده حسن، محمد بن إسحاق قد صرح بالتحديث فانتفت شبهة تدليسه، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين " انتهى.
وهذا لا يتعارض مع ما رواه البخاري (3108)، ومسلم (2080): عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُلَبَّدَةَ. قَالَ: فَأَقْسَمَتْ بِاللهِ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ فِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ".
لأنّه قد صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلم كفّن في غير ثيابه التي كانت عليه.
روى البخاري (1264)، ومسلم (941): عن عائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ أَثْوابٍ يَمانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلا عِمامَةٌ".
وهذا يعني أنه بعد تغسيله صلى الله عليه وسلم نزع قميصه الذي غسّل فيه؛ فإنه لا يلائم أن يكفّنوه صلى الله عليه وسلم في ثوب مبلّل.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وقد قال بعض الناس وقطع أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم ينزع عنه ذلك القميص، وإنّه كفّن فيه مع الثلاثة الأثواب السَّحُوليّة.
وهذا ليس بشيء، ومعلوم أنّ الثوب الذي يغسّل فيه الميّت ليس من ثياب أكفانه، وثياب الأكفان غير مبلولة، وقد قالت عائشة: " كُفِّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثةِ أثوابٍ بيضٍ سَحُوليّةٍ، ليس فيها قميصٌ ولا عمامة " تعني: ليس في أكفانه قميص ولا عمامة " انتهى. "التمهيد" (2/167).
وقال ابن بطال رحمه الله تعالى:
" قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: ( ليس فيها قميص ولا عمامة ): يدل أن القميص الذى غسّل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، نزع عنه حين كفن، لأنه إنما قيل: لا تنزعوا القميص ليستر به، ولا يكشف جسده، فلما ستر بالكفن استغنى عن القميص ... " انتهى. "شرح صحيح البخاري" (3 / 260).
وأمّا ما رواه أبو داود (3153)، وابن ماجه (1471): عَنْ يَزِيدَ ابْن أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ نَجْرَانِيَّةٍ: الْحُلَّةُ ثَوْبَانِ، وَقَمِيصُهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ".
فهذا الخبر تفرّد بروايته يزيد ابن أبي زياد، وقد ضُعِّف.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" يزيد بن أبي زياد الكوفي: مشهور سيء الحفظ.
قال ابن حبان: صدوق إلا أنه كبر وساء حفظه، وكان يتلقن. وقال يحيى: ليس بالقوي. وقال أيضا: لا يحتج بحديثه. وقال ابن المبارك: إرم به " انتهى. "المغني في الضعفاء" (2 / 749).
ولهذا نص عدد من أهل العلم على ضعف هذا الخبر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" تفرد به يزيد بن أبي زياد، وقد تغير، وهذا من ضعيف حديثه " انتهى. "التلخيص الحبير" (3/1169).
خاصة وأنه مخالف لحديث عائشة رضي الله عنها المتفق على صحته.
قال الترمذي رحمه الله تعالى:
" وقد رُوي في كفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصحّ الأحاديث الّتي رُوِيَت في كفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم " انتهى. "سنن الترمذي" (2 / 312).
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" … هذه الآثار الصّحاح تردّ حديث يزيدَ بنِ أبي زياد، عن مِقسَم، عن ابن عباس، قال: " كُفِّن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثةِ أثواب: في قميصه الذي مات فيه … ".
وكيف يكفّن في قميصه وعائشة تقول: ليس فيها قميص؟ وحديثها من جهة الإسناد أثبت " انتهى. "التمهيد" (14 / 93).
وقال النووي رحمه الله تعالى:
" وأما الحديث الذي في "سنن أبي داود" عن بن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: الْحُلَّةُ ثَوْبَانِ وَقَمِيصُهُ الَّذِي توفي فِيهِ ): فحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به؛ لأن يزيد بن أبي زياد أحد رواته مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقاة " انتهى. "شرح صحيح مسلم" (7 / 8).
والخلاصة:
لا تعارض بين هذه الأخبار، فما ورد من تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم في قميصه الذي توفي فيه، فهذا لا يعني ولا يلزم منه أنه دفن فيه، فالثابت الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كفّن في ثلاثة أثواب اخرى ليس فيها قميص، وهذا يعني أنه قد نزع عنه قميصه بعد الغسل لأنه لا يلائم الكفن لبلله.
ثم كونه صلى الله عليه وسلم غسّل في القميص، لا يلزم من هذا أنه هو الثوب الوحيد الذي كان على جسد النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته، فالظاهر من حديث عائشة رضي الله عنها أنه كان عليه غيره فنزع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وأبقي القميص فقط لأجل الغسل.
والله أعلم