أولاً:
دعوة الرسل فيها كثير من وجوه الشبه، لأنها تدعو إلى عبادة الله وحده، وإلى الأخلاق الكريمة الحسنة. قال الله تعالى: وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ النحل/٣٦.
وفي هذا المعنى يقول سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ الأنبياء/25.
ولكل نبي أعداء ومستكبرون، كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ الأنعام/ 112.
فكانت ردود المشركين متشابهة؛ لأن قلوبهم متشابهة في الكبر والطغيان.
"فالأقوال تابعة لما في القلوب؛ فقلوب الكفار متشابهة، فكانت أعمالهم متشابهة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة / 118]. وَقَالَ تَعَالَى: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاريات/ 53]" أضواء البيان (7/113)، تفسير العثيمين الفاتحة والبقرة (2/24).
وبالتالي كانت ردود الأنبياء فيها شبه كبير؛ لأن الرب واحد، ومراده من الخلق واحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ" رواه البخاري (٣٤٤3)، ومسلم (٢٣٦٥). والإخوة من علات هم الإخوة من أبٍ واحدٍ وأمهاتهم مختلفة.(العلات: الضرائر). انظر: "فتح الباري" لابن حجر(6/489)، "التحرير والتنوير"(8/202).
ثانياً:
اعتنت مصنفات علوم القرآن بسرد أنواع المتشابه، فأفرد الزركشي رحمه الله-خمسة عشر فصلاً في كتابه "البرهان في علوم القرآن" (1/112) لبيان أنواع المتشابه؛ فقال:
"النوع الخامس: علم المتشابه.
وقد صنف فيه جماعة ونظمه السخاوى وصنف في توجيهه الكرماني كتاب البرهان والرازي درة التأويل وأبو جعفر بن الزبير وهو أبسطها في مجلدين.
وهو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة، ويكثر في إيراد القصص والأنباء، وحكمته التصرف في الكلام وإتيانه على ضروب؛ ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك، مبتدأ به ومتكرراً، وأكثر أحكامه تثبت من وجهين فلهذا جاء باعتبارين، وفيه فصول: ..."انتهى.
والعلماء رحمهم الله قد ألفوا في المتشابه والمختلف في القرآن الكريم؛ فللخطيب الإسكافي (ت:420هـ) "درة التنزيل وغرة التأويل" (1/217)، والكرماني (ت: 505هـ) له كتاب "البرهان في توجيه متشابه القرآن"، وابن الزبير الغرناطي (ت: 708هـ) له كتاب "ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل"، ولابن جماعة الحموي (ت: 733هـ) كتاب "كشف المعاني في المتشابه من المثاني"، ولزكريا الأنصاري "فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن" (ت: 926هـ).
ثالثاً:
من جهة النسب:
أما نسب صالح عليه السلام وقومه؛ فقد قال ابن كثير رحمه الله: "قوم ثمود وَهُمْ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ يُقَالُ: ثَمُودُ، بِاسْمِ جَدِّهِمْ ثَمُودَ أَخِي جَدِيسٍ، وَهُمَا ابْنَا عَابَرَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانُوا عَرَبًا مِنَ الْعَارِبَةِ يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ الَّذِي بَيْنَ الْحِجَازِ وَتَبُوكَ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى تَبُوكَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَكَانُوا بَعْدَ قَوْمِ عَادٍ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَأُولَئِكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ بْنِ مَاسِخِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَاجِرِ بْنِ ثَمُودَ بْنِ عَابَرَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ" انتهى من "البداية والنهاية" (1/304).
وأما عن نسب مدين، قوم شعيب: فقال ابن كثير: "كَانَ أَهْلُ مَدْيَنَ قَوْمًا عَرَبًا يَسْكُنُونَ مَدِينَتَهُمْ مَدْيَنَ الَّتِي هِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ مُعَانٍ، مِنْ أَطْرَافِ الشَّامِ، مِمَّا يَلِي نَاحِيَةَ الْحِجَازِ، قَرِيبًا مِنْ بُحَيْرَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَكَانُوا بَعْدَهُمْ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ، وَمَدْيَنُ قَبِيلَةٌ عُرِفَتْ بِهِمُ الْمَدِينَةُ، وَهُمْ مِنْ بَنِي مَدْيَنَ بْنِ مديَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَشُعَيْبٌ نَبِيُّهُمْ: هُوَ ابْنُ ميكيلَ بْنِ يَشْجَنَ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ"، (وقال:)"وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فِي ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ قَالَ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ؛ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ .
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُسَمِّي شُعَيْبًا خَطِيبَ الْأَنْبِيَاءِ، يَعْنِي لِفَصَاحَتِهِ، وَعُلُوِّ عِبَارَتِهِ، وَبَلَاغَتِهِ فِي دِعَايَةِ قَوْمِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِرِسَالَتِهِ، وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا "أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَشُعَيْبٌ وَصَالِحٌ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" رواه ابن حبان (361)، وذكره الألباني في "الضعيفة" (1910 ، 6090).
قال ابن الأثير: "وقيل: لم يكن شعيب من ولد إبراهيم، وإنما هو وَلدُ بعضِ من آمن بإبراهيم وهاجر معه إلى الشام، ولكنه ابن بنت لوط، فجدة شعيب ابنة لوط" انتهى من "الكامل في التاريخ" (1/138).
رابعاً:
ثمود بعد عاد وقبل إبراهيم عليه السلام، وشعيب عليه السلام بعد إبراهيم عليه السلام، كما تقدم. قال الله تعالى في قوم ثمود : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ... سورة الأعراف الآية/ 74.
خامسا:
الموقع: موقع قوم ثمود وقوم شعيب: متقاربان فكلاهما شمال غرب الجزيرة.
في "تفسير ابن كثير" (4/ 348) :" (أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ): وَكَانُوا جِيرَانَهُمْ، قَرِيبًا مِنْهُمْ فِي الدَّارِ، وَشَبِيهًا بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وقَطْع الطَّرِيقِ، وَكَانُوا عرَبا شَبَهَهُمْ" انتهى.
- موقع ديار ثمود قوم صالح عليه السلام:
في "الصحاح" (2/624) و"لسان العرب" (4/170): "والحِجر ديار ثمود ناحية الشام عند وادي القرى".
وفي "تفسير الطبري" (10/282): "وكانت مساكنهم الحِجر بين الحجاز والشام، إلى وادي القرى وما حوله". وانظر: أبحاث هيئة كبار العلماء (3/83).
وقال ابن كثير رحمه الله: "قوم ثمود ... َكَانُوا عَرَبًا مِنَ الْعَارِبَةِ يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ الَّذِي بَيْنَ الْحِجَازِ وَتَبُوكَ". انتهى من "البداية والنهاية" (1/304).
وتقع ديار ثمود وهي (مدائن صالح) بين العُلا وتبوك؛ على بُعد 22 كلم شمال شرقي العلا (والعلا: تقع شمال المدينة النبوية)، ويطلق على ديار ثمود اسم (الحِجر)، وهي منطقة جبلية، قال الياقوت الحموي: "والحِجر: اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام، قال الإصطخري: الحِجر قرية صغيرة قليلة السكان، وهو من وادي القرى على يوم بين جبالٍ، وبها كانت منازل ثمود، قال الله تعالى: (وَتَنْحِتُونَ من الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) " انتهى من "معجم البلدان" (2/221). وانظر: "أطلس تاريخ الأنبياء والرسل"- سامي المغلوث(ص/98).
- موقع مدين قبيلة شعيب عليه السلام:
قد بعث الله نبيه شعيباً عليه السلام في قومه (مدين)، و(مدين) شمال غربي الحجاز بمنطقة تسمى (البِدْع)، وهي بين تبوك وخليج العقبة (الذي هو طرف البحر الأحمر العلوي)، وهي قريبة جداً من خليج العقبة وَإِلى مَديَنَ أَخاهُم شُعَيبًا قالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّهَ ما لَكُم مِن إِلهٍ غَيرُهُ قَد جاءَتكُم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُم فَأَوفُوا الكَيلَ وَالميزانَ وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم وَلا تُفسِدوا فِي الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِها ذلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم مُؤمِنينَ الأعراف/ ٨٥.
في "معجم البلدان" (5/77): "قال أبو زيد: مدين على بحر القلزم، محاذية لتبوك، على نحو من ست مراحل، وهي أكبر من تبوك" انتهى.
قال عاتق البلادي في كتابه (رحلات في بلاد العرب في شمال الحجاز والأردن) (ص/114): "أمَّا موقع مَدْيَن: فهو بلا خلاف غرب تبوك، بينها وبين خليج العقبة، فإذا كان المقصود مدينة شعيب فهي تُعْرَف اليوم باسم البدع، وتقع على (220) كيلاً من تبوك، يصل بينهما طريق معبَّد، أمَّا إذا كان المقصود ديار القبيلة، فإنَّ الموقع والحدود تتأثر بسعة انتشار تلك القبيلة وتقلُّصها، فإذا ثبت أنَّهم من جذام، كانت تمتد من ساحل البحر إلى قُرب تبوك، ثُمَّ تدخل في الشراة شمالاً، وتقرب من ضبة جنوباً " انتهى.
وانظر: الصور والخريطة في "أطلس تاريخ الأنبياء والرسل" لسامي المغلوث (ص/149).
ويرى أ. محمد الخياري في "المختصر عن أنساب الأنبياء"(ص/104) "أن معان الأردنية هي مساكن قوم مدين" وعقب عليه سامي المغلوث، وقال: "في الوقت الذي ينفي محمود القاسم في جغرافية القصص القرآني، أن تكون البدع عاصمة لمدين؛ كما يراه جمهور المؤرخين" انتهى من "أطلس تاريخ الأنبياء والرسل" (ص/149).
وقد ذكر العلامة حمد الجاسر -رحمه الله- في كتابه (في شمال غربي الجزيرة)(ص/483): "أن الأيكة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم قيل: هي تبوك التي غزاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آخر غزواته، وأهل تبوك يقولون ذلك ويعرفونه. ولم أجد هذا في كتب التفسير، بل يقولون: الأيكة الغيضة الملتفة بالأشجار، والجمع أيك، والمراد بأصحاب الأيكة أهل مدين. قلت: ومدين وتبوك متجاوران، وأقول: ولا يزال يطلق اسم الأيكة على واد من روافد عفال في المنطقة المعروفة باسم بلاد مدين، والتي فيها مغاير شعيب". انتهى.
أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ: أي: قَومُ شُعَيبٍ، والأيكةُ: الشَّجَرُ المُلتَفُّ المُجتَمِعُ. انظر: "تفسير الطبري" (17/632).
روى الحاكم في "المستدرك" (2/616): " أَنَّ صَالِحَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرَبِ لَمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ عَادًا وَانْقَضَى أَمْرُهَا عَمَّرَتْ ثَمُودُ بَعْدَهَا، فَاسْتُخْلِفُوا فِي الْأَرْضِ فَانْتَشَرُوا، ثُمَّ عَتَوْا عَلَى اللَّهِ، فَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُهُمْ وَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ صَالِحًا، وَكَانُوا قَوْمًا عَرَبًا وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا، وَأَفْضَلِهِمْ مَوْضِعًا وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمُ الْحِجْرَ إِلَى قَرْعٍ وَهُوَ وَادِي الْقُرَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا فِيمَا بَيْنَ الْحِجْرِ إِلَى الْحِجَازِ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ غُلَامًا شَابًّا، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى شَمِطَ وَكَبِرَ، وَلَا يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ، فَهَلَكَتْ عَادٌ وَثَمُودُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَكَانُوا مِنْ وَلَدِ لَاوِذِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ نَبِيٌّ قَبْلَهُ يَعْنِي قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا هُودٌ وَصَالِحٌ".
سادساً: اختلف العلماء؛ هل أصحابُ الأيكةِ هم مَدْيَنُ أنفسُهم، فيكون شعيبٌ أُرْسِلَ إلى أُمَّةٍ واحدةٍ، أو مدينُ أمةٌ، وأصحابُ الأيكةِ أمةٌ أخرى؟
قال ابن عاشور رحمه الله: "أصحابُ الأيكةِ: هم قومُ شُعَيبٍ عليه السلام، وهم مدينُ.
وقيل: أصحابُ الأيكة فريقٌ من قومِ شُعَيبٍ غيرُ أهل مدينَ. فأهلُ مَدْينَ هم سكَّان الحاضرة، وأصحابُ الأيكةِ هم باديتُهم، وكان شعيبٌ رَسولًا إليهم جميعًا". انتهى من "تحرير التنوير" (14/71).
وقال الشنقيطي رحمه الله: "والعلماءُ مختلفونَ: هل أصحابُ الأيكةِ هم مَدْيَنُ أنفسُهم، فيكون شعيبٌ أُرْسِلَ إلى أُمَّةٍ واحدةٍ، أو مدينُ أمةٌ، وأصحابُ الأيكةِ أمةٌ أخرى، فيكون شعيبٌ قد أُرْسِلَ إلى أُمَّتَيْنِ؟
هذا خلافٌ معروفٌ بَيْنَ العلماءِ، وأكثرُ أهلِ العلمِ على أنهم أمةٌ واحدةٌ، كانوا يعبدونَ أيكةً، أي: شجرًا مُلْتَفًّا، وأن اللَّهَ سماهم مرةً بنسبهم مدين، ومرةً أضافهم إلى الأيكةِ التي يعبدونَها. وجزمَ بصحةِ هذا ابنُ كثيرٍ في تاريخِه وتفسيرِه.
ومِمَّنِ اشتهر عنه أنهم أُمَّتَانِ: قتادةُ وجماعةٌ، وهو خلافٌ معروفٌ.
والذين قالوا: إنهما أُمَّتانِ قالوا: في مدين قال: إنَّه أخوهم، حيث قال: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) [الأعراف/ 85]، أما أصحابُ الأيكةِ، فلم يَقُلْ: إنَّه أخوهم، بل قال: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) [الشعراء/ 176، 177] ولم يقلْ: أخوهم شعيبٌ؟
وأُجِيب عن هذا، بأنَّه لَمَّا ذَكَر مَدينَ ذَكَر الجدَّ الذي يشملُ القبيلةَ، ومِنْ جُملتِها شعيبٌ، ذكَر أنَّه أخوهم مِن النسبِ. أما قولُه: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فمعناه: أنَّهم يعبدونها، ولَمَّا ذَكَرهم في مقامِ الشركِ وعبادةِ غيرِ اللَّهِ، لم يُدْخِلْ معهم شعيبًا في ذلك وهم أمةٌ واحدةٌ. هكذا قاله بعضُهم، واللَّهُ أعلمُ). "العذب النمير" (3/572).
سابعاً:
قوله في شأن صالح عليه السلام: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ الأعراف/79، وفي شأن شعيب عليه السلام: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ الأعراف/93: يَحتمِل أنْ يكونَ المرادُ بالتولِّي أنَّ صالحاً وشعيباً عليهما السلام كلاً منهما قد فارَقَ دِيارَ قَومِه حِينَ عَلِم أنَّ العذابَ نازلٌ بهم، ويَحتمِل أنْ يكونَ يُرادُ به أنَّه أعْرَضَ عن النَّظرِ إلى القَريةِ بعدَ إصابتِها بالصَّاعقةِ، أو أعْرَضَ عن الحُزنِ عليهم، واشْتَغَل بالمؤمنِينَ.
فعلَى الوجه الأوَّل يكونُ قوله: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ...) مُستعملًا في التوبيخِ لهم، والتَّسجيلِ عليهم. وعلى الوجه الثاني- وهو أنَّ التولِّي كان بعدَ هلاكِهم ومُشاهدَةِ ما جرَى عليهم- يكونُ الخِطابُ والنِّداءُ مُستعملًا في التَّفجُّع عَليهم والتحسُّر، أو في التَّبرِّي منهم؛ فيكونُ النِّداءُ تَحسُّرًا؛ فلا يَقتضي كونَ أصحابِ الاسمِ المنادَى ممَّن يَعقِلُ النِّداءَ حينئذٍ. يُنظر: "تفسير أبي حيان" (5/98)، "تفسير ابن عاشور" (8/228).
وممن اختار من المفسرين أنَّ التَّوليَ عنهم هنا ومُخاطَبَتَهم كان بعد هلاكِهم: الواحديُّ، وابنُ كثير، والسَّعدي، والشنقيطي. يُنظر: "الوجيز" للواحدي (ص: 401)، "تفسير ابن كثير" (3/444)، "تفسير السعدي" (ص: 295)، "العذب النمير" للشنقيطي (3/534).
وممن اختار من المفسرين أنَّ التَّولِّيَ عنهم ومخاطَبَتَهم كان قبل هلاكِهم: ابنُ جريرٍ، والقرطبي. يُنظر: "تفسير ابن جرير" (10/304)، "تفسير القرطبي" (7/242).
وقال الشِّنقيطيُّ: "وهذا التَّولي للعُلَماءِ فيه وجهانِ: أحدُهما: أنَّه تَولَّى عنهم لَمَّا تَحقَّقَ الهلاكَ وأنَّه نازِلٌ بهم، تولَّى راجعًا عنهم ..
وبعضُ العُلماءِ يقولون: إنَّ نَبِيَّ اللهِ صالحًا لم يقُلْ لهم هذا إلَّا بعد أن نَزَلَ بهم عذابُ اللهِ، وصاروا موتى، وفارَقَت أرواحُهم أجسادَهم، جاء إلى جُثَثِهم ووبَّخَهم هذا التَّوبيخَ بعد أن ماتوا، وهذا الأخيرُ هو ظاهِرُ القُرآنِ؛ لأنَّ قولَه: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) مُرَتَّبٌ بالفاء على قوله: (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)؛ والفاء تقتضي التَّعقيبَ، فكونُه قال لهم هذا بعد أنْ ماتوا وأصبَحُوا في دارِهم جاثمينَ: هو ظاهِرُ القرآنِ" انتهى من "العذب النمير" (3/534).
سابعاً:
قال صالح عليه السلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي الأعراف/79، وقال شعيب عليه السلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي الأعراف/ 93.
للسائل أن يسأل عن إفراد الرسالة في قصة صالح عليه السلام، وجمعها في قصة شعيب عليه السلام، وما الفائدة المخصصة لكل واحد من اللفظين بمكانه؟
أولاً: توجيه الجمع في قول نوح وهود وشعيب عليهم السلام (رسالات ربي)، هناك عدة أوجه:
- لاختلاف أوقات التبليغ؛ فيكون قد أطلق على كل تبليغ رسالة.
- لاشتمال الرسالة على معان مختلفة كالعقائد والمواعظ والأحكام، فيكون الجمع باعتبار تعدد هذه المعاني.
- المراد: أبلغتكم ما أوحي إلي، وما أوحي من قبلي.
قال البيضاوي في تفسيره (3/18): "وجمع الرسالات: لاختلاف أوقاتها، أو لتنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والأحكام، أو لأن المراد بها ما أوحي إليه وإلى الأنبياء قبله" انتهى.
ثانياً: توجيه قوله (رسالة ربي) بالإفراد:
1- لا فرق بين الإفراد والجمع؛ لأن الإفراد في (رسالة ربي) من باب اسم الجنس المضاف؛ فيكون عاماً لجميع الرسائل.
كقوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل/ 18] ، فيعمّ جميع نعم الله تعالى، وقد قرئ قوله تعالى لرسولنا صلى الله عليه وسلم: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67] ، بالإفراد والجمع، قال ابن عادل في تفسير اللباب (ص: 1836): "وقرأ نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر : " رِسَالاَتِهِ " جَمْعاً ، والباقون : " رِسَالَتَهُ " بالتوحيد ، ووجهُ الجمْع : أنه عليه السَّلام بُعِثَ بأنْواعٍ شتَّى من الرسالة ؛ كأصول التوحيد ، والأحكام على اختلاف أنواعها ، والإفرادُ واضحٌ ؛ لأنَّ اسمَ الجنس المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك ، وقد قال بعض الرسُلِ : (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي) [الأعراف : 62]، وبعضُهم قال : (رِسَالَةَ رَبِّي) [الأعراف / 79] ؛ اعتباراً للمعنيين" انتهى.
2- أن ذكر صالح عليه السلام بلفظ الإفراد دون غيره من الأنبياء؛ لأن الرسالة كانت واحدة وهي الناقة.
قال الكرماني رحمه الله: "قوله: (رسالات ربي)، في جميع القصص إلا في قصة صالح، فإن فيها رسالة على الواحدة؛ لأنه سبحانه حكى عنهم بعد الإيمان بالله والتقوى أشياء أمروا قومهم بها، إلا في قصة صالح، فإن فيها ذكر الناقة، فصار كأنها رسالة واحدة". يعني: آية الناقة. انتهى من "أسرار التكرار في القرآن = البرهان في توجيه متشابه القرآن" (ص: 122)
ويُنظر: "درة التنزيل وغرة التأويل" للإسكافي (2/623- 626)، "ملاك التأويل" لأبي جعفر الغرناطي (1/202- 204)، "فتح الرحمن" لزكريَّا الأنصاري (1/198).
ثامناً:
أما من جهة تشابه قوم صالح وشعيب عليهما السلام في الهلاك والعذاب؛ فقد قال الله تعالى: "أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ" [هود/95]، قال ابن عاشور: "كما بعدت ثمود: فهو تشبيه البعد، الذي هو انقراض مدين، بانقراض ثمود. ووجه الشبه التماثل في سبب عقابهم بالاستئصال، وهو عذاب الصيحة". انتهى من "التحرير والتنوير" (12/ 154).
قال الله تعالى في أهل مدين قوم صالح عليه السلام (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود: 67]، وقال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود: 94]. وقال أيضا في قوم لوط عليه السلام (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) [الحجر: 73]. وقال في قوم شعيب عليه السلام: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) الأعراف/ 78.
وقال الله تعالى في قوم شعيب عليه السلام، (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) قال الطبري: "يعني بالظلة: سحابة ظللتهم، فلما تتاموا تحتها التهبت عليهم ناراً، وأحرقتهم، وبذلك جاءت الآثار". انتهى من "تفسير الطبري" (17/637).
وفي "الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور" (4/16): أخرج البستي بسنده الصحيح عن الضحاك يقول: (فأخذهم عذاب يوم الظلة) قوم شعيب، حبس الله عنهم الظل والريح، فأصابهم حر شديد، ثم بعث الله لهم سحابة فيها العذاب فلما رأوا سحابة انطلقوا يرمونها، زعموا يستظلون بها، فاضطرمت عليهم فأهلكتهم" انتهى.
في "زاد المسير في علم التفسير" (2/398): "قوله تعالى: (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ). قال المفسرون: صاح بهم جبريل فماتوا في أمكنتهم. قال محمد بن كعب: عُذّب أهل مدين بثلاثة أصناف من العذاب، أخذتهم رجفة في ديارهم حتى خافوا أن تسقط عليهم، فخرجوا منها فأصابهم حرٌّ شديد، فبعث الله الظُلَّةَ، فتنادَوا: هلم إِلى الظل فدخلوا جميعاً في الظُلَّة، فصيح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم. قال ابن عباس: "لم تعذّب أمّتان قط بعذاب واحد، إلا قوم شعيب وصالح، فأما قوم صالح، فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب، فأخذتهم من فوقهم"، نشأت لهم سحابة كهيئة الظُلَّة، فيها ريح بعد أن امتنعت الريح عنهم، فَأَتَوْها يستظلُّون تحتها فأحرقتهم" انتهى.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/347): "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وَهُمْ قَوْمُهُ، (الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) وَقَوْلُهُ (جَاثمِيِنَ) أَيْ: هَامِدَيْنِ لَا حِرَاك بِهِمْ. وَذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّهُ أَتَتْهُمْ صَيْحَةٌ، وَفِي الْأَعْرَافِ (رَجْفَةٌ)، وَفِي الشُّعَرَاءِ (عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ)، وَهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ عَذَابِهِمْ هَذِهِ النقَمُ كُلُّهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي كُلِّ سِيَاقٍ مَا يُنَاسِبُهُ، فَفِي الْأَعْرَافِ لَمَّا قَالُوا: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا) [الْأَعْرَافِ/88] ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ هُنَاكَ الرَّجْفَةَ، فَرُجِفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ الَّتِي ظَلَمُوا بِهَا، وَأَرَادُوا إِخْرَاجَ نَبِيِّهُمْ مِنْهَا، وَهَاهُنَا لَمَّا أَسَاءُوا الْأَدَبَ فِي مَقَالَتِهِمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ، نَاسَبَ ذِكْرَ الصَّيْحَةِ الَّتِي أَسْكَتَتْهُمْ وَأَخْمَدَتْهُمْ، وَفِي الشُّعَرَاءِ لَمَّا قَالُوا: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشُّعَرَاءِ/18]، قَالَ (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشُّعَرَاءِ/189] ، وَهَذَا مِنَ الْأَسْرَارِ الْغَرِيبَةِ الدَّقِيقَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ كَثِيرًا دَائِمًا" انتهى.
والله أعلم.