أولًا:
هذه الآيات من سورة البقرة: آيات محكمات بيِّنات مفصَّلات، إذا تدبرها الإنسان حق التدبر، بلغَتْه معانيها تامة، بلا لبس ولا إشكال إن شاء الله.
وقصة الملائكة وسؤالها لله عز وجل سيقت ضمن تعداد نعم الله عز وجل على بني آدم، إمعانًا في توبيخ من كفر من الكفار، فالسياق كما شرح الطبري في "تفسيره" (1/470): "اذكروا نعمتي إذ فعلتُ بكم وفعلتُ، واذكروا فِعْلي بأبيكم آدم، إذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، انتهى مختصرًا.
ثانيًا:
أنت إنما تريد أن تقول أيها السائل: وأيُّ فضلٍ لآدم عليه السلام، على الملائكة في شيء علَّمَه الله إياه دونهم؟! وتقول: لو أن الله تعالى علَّمَ الملائكةَ الأسماءَ، لعرفوها كما عرفها آدم، ولم تنس أن تستشهد بقول الملائكة: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا.
والحق أن هذا منك، إذا تدبرتَ: مساواة بين الجهل والعلم، وبين الجاهل والعالم، تترسًا بما لا ينفع هنا، وهو: أن الله تعالى هو الذي علَّمَ؟!
ولا ينازِع أحد في أن الله تعالى هو الذي يُعلِّم كلَّ عالِم، وأنه لولا الله ما علِم آدمُ شيئًا، وأنه لو أراد الله لعلمَت الملائكةُ الأسماء، لا آدم، لكن هذا لا ينزع الفضل من العالم بالأسماء، ويضيفه إلى من جهلها، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ.
وكون الله تعالى هو الذي علَّم، ولا عِلْم لأحد إلا بإذنه: هذا مما يؤكِّد الفضل والمنزلة عند الله الذي اختار من يعلمه، وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وأعظمُ الفضل: فضل الله بالعلم والنبوة والطاعة والإيمان والعمل الصالح، وهي الحجة على اليهود في مواضع من القرآن، الذين جحدوا أن يكون الفضل والنبوة في غير ذرية إسحق عليه السلام، وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويختص برحمته من يشاء، ويؤتي الحكمة من يشاء.
وكان الأقرب أن تقول: قال الله تعالى في آية الكرسي، أعظم آيات القرآن، ومن أشهرها عند الخاصة والعامة: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ، أي: "أنه لا يعلَم أحدٌ سواه شيئًا، إلا بما شاء هو أن يعلِّمه، فأرادَ فعلَّمه"، كما قاله الطبري في "تفسيره" (4/ 536)، وهو واضح، لا يحتاج تفسيرًا.
هذا؛ رغم أنك تقول بعد ذلك: (الملائكة يفضُلون آدم بأنهم لا يعصون الله)، فنسبتَ فضل الطاعة للملائكة، مع أن الله تعالى هو الذي تفضل عليهم أيضًا، كما تفضل على آدم عليه السلام بعلم الأسماء، فهلا قلت هنا: لو كان آدم وذريّته قد جُبلوا وطُبعوا على الطاعة، وسُخِّروا لها، دون شهوة، ولا اختيار معصية، ولا إرادة لها؛ لكانوا مثل الملائكة؟!
وهلا قلتَ: أيُّ فضل للملائكة على آدم في شيء قد جعله الله هو أصلَ خلقتهم وطبعهم، دون أصل خلقته وطبعه هو وذريته؟
قد قال الله تعالى عن الملائكة: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
"لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي: لا يقولون قولًا مما يتعلق بتدبير المملكة، حتى يقول الله؛ لكمال أدبهم، وعلمهم بكمال حكمته وعلمه، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أي: مهما أمرهم، امتثلوا لأمره، ومهما دبرهم عليه، فعلوه، فلا يعصونه طرفة عين، ولا يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر الله"، انتهى من "تفسيره" (ص521).
ومن هنا قال من قال من العلماء: إن صالحي بني آدم خير من الملائكة، وانظر جواب السؤال: (177709).
هذا؛ مع أن سياق القصة والآيات: لم يكن في حقيقته عن فضيلة آدم على الملائكة، أو عكس ذلك، كما سنبينه بعد ذلك، إن شاء الله؛ فلا نحتاج إلى البحث في ذلك التفاضل، أصلا، ولا النظر فيه.
ثالثًا:
مفتاح جواب سؤالك، إن شاء الله، أن تفهم على أي وجه كان سؤال الملائكة، وما معناه وحقيقة تفسيره؛ فحينئذ تجد الحجة ناطقة، وتجد جواب السؤال بيّنًا في الآيات المحكمات، بلا ريب، إن شاء الله.
فالملائكة كما سبق: ليس من شأنهم معارضة أمر ربهم، أو محاججته على شيء من تدبيره تعالى، ولا يمكنهم اختيار عدم امتثال أمره تعالى، فقد جُبلوا على الطاعة والامتثال بلا شهوة ولا غرضٍ مخالفٍ، ولا اختيارٍ للعصيان.
وقد أشعَرَ سؤالك عن حجة الله التي دحض – أي أبطلَ - بها سؤال الملائكة معنًى بخلاف ذلك، كأنَّ سؤال الملائكة لرب العالمين تعالى، هو سؤال معارضةٍ أو استنكار، أو محاججة، وكل ذلك غير جائز من الملائكة ولا لائق بهم، وهم أكرم وأطوع لله وأشد تسليمًا وأعلم بالله وبعلمه وحكمته من ذلك قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وأما الاعتراض والجهل والتكبر، فهذا يليق بأهل الاستكبار والجهالة من عصاة الجن والإنس.
قال الراغب الأصفهاني، رحمه الله: " إن قيل: ما وجه قوله: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا وهو عالم بما علمهم، وعالم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم؟
قيل: القصد بذلك: إظهار أنْ ليس سؤالُهم على وجه الاعتراض، بل على سبيل الاستفادة وإظهار العجز، وأنه قد بدا لهم ما كان خفي عليهم من فضيلة الإنسان. وإظهار الشكر لنعمته، وتعظيم منته بما عرَّفهم". "تفسير الراغب الأصفهاني" (1/ 147).
ولو كان سؤالهم سؤالَ إنكار، أو يتضمَّن تفضيل أنفسهم على آدم وذريته، أو أنهم أحق منهم بالاستخلاف في الأرض، وذلك بعدما أخبرهم الله تعالى أنه جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، أي أن ذلك سيكون ولا بدَّ، فأيُّ فرق بينهم وبين إبليس الذي أبى واستكبر واغترَّ فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ؟
وإنما كان سؤال الملائكة: سؤال استعلام عن الحكمة، التي جهلوها لنقص علمهم، لخفاء ما خفي عنهم.
قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" (1/ 216): " وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا. قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: (أتجعل فيها) الآية]؛ وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء؛ مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ... أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟
قال الله تعالى مجيبًا لهم عن هذا السؤال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ؛ أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف، على المفاسد التي ذكرتموها، ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء، والصالحون والعباد، والزهاد والأولياء، والأبرار والمقربون، والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله، صلوات الله وسلامه عليهم"، انتهى مختصرا.
رابعًا:
إذا تمهَّد لك ما سبق، فالذي يتبيَّن من تدبر سؤال الملائكة، وقول الله تعالى لهم، والقصة كلها، هو:
1- أن الله تعالى قد نبَّأَ الملائكةَ ببعض الخبر، وأخفى عنهم بعضه:
فالذي نبَّأهم به هو: أنه تعالى جاعل في الأرض خليفة. وأخفى عنهم: ما سوى ذلك، فلم تعلم الملائكة شيئا عن صلاحٍ أو خيرٍ يكون في هؤلاء المستخلفين، كما سبق نقله عن ابن كثير.
2- أن الملائكة قد أخبَروا عن الظاهر لهم، إما من حال المخلوقين قبل خلق آدم وذريته واستخلافهم في الأرض، أو من خبر الله لملائكته عن حال الخلق المستخلفين، أو من غير ذلك= فتحدثوا بمبلغ علمهم، فهم لا يعلمون ما يعلمه الله تعالى مما سيكون، ولا يعلمون إلا: أن الله إذا أمر، فإنه يطاع، وأنه تعالى لا يُعصى، وإنما تسبح المخلوقات بحمده، ويقدسون له، وأما المعصية والإفساد وسفك الدماء: فسوف تأتي من قبل المستخلفين في الأرض.
فالسؤال إذن كان عن الحكمة من إيجاد خلق يفسدون في الأرض، ويسفكون الدماء، ولا خير فيهم، بينما الحال قبلهم خالٍ من هذا الفساد.
3- فكان الجواب: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، فالمنتظَر إذن؛ أن يكون في القصة بيانٌ لما خفي عن الملائكة، وأن يكون تبيُّنه هو نفس جواب سؤالهم، وهو ما كان والحمد لله، فقد وقعت الوقائع بعد ذلك ليتبيَّن منها لكل متدبر: أن الأمرين اللذين تكلم بهما الملائكة؛ لم يكونا بحسب ظنهم، ولا على ما قالت الملائكة.
(ففي الأمر الأول): وقبل أن يهبط آدم إلى الأرض، بل: قبل أن يعصي ربَّه أية معصية، وقبل أن تكون له ذرية: ظهرَ الإباء والاستكبار والعناد والكُفر الأعظم!
وظهرَ من يأبى أن يطيع أمر الله، وقد سمع أمر الله بنفسه، وتلقاه، وهو عالم بالله وعظمة الله وقدرته، وعزَّته، حتى إنه بعد كفره يحلف مخاطبا ربَّه يقول: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ!
فإذا سأله ربُّه عن سبب إبائه؛ استكبر، وجادل خالقَه بغرور، يقول له ربُّه: يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ؟، فيجيب: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ!
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ!
وإبليس كان من الجن، لكنه كان وسط الملائكة، يطيع الله كما يطيعون، وكان في الظاهر من كبار العبّاد، حتى كان يقال له: طاووس الملائكة.. لذلك إذا أمر الله الملائكة بشيء: دخل هو في الأمر تبعًا، وليس لأنه ملك مثلهم، وقد أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم، فلم يسجد إبليس، ويراجع للفائدة المهمة جواب السؤال: (8976).
وذكر الطبري في "تفسيره" (1/ 507) من أوجه تفسير أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، قال: "مما اطلعَ عليه مِن إبليس، وإضمارِه المعصية لله وإخفائه الكبر، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه، وخفي على ملائكته"، انتهى.
ثم روى عن ابن عباس في تفسيرها، قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره"، وروى عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم، في تفسيرها: "يعني: من شأن إبليس"، وروى من طرقٍ عن مجاهد رحمه الله في تفسير الآية نفسها قال: "علِمَ من إبليس المعصية وخلقه لها" انتهى، فهذا مما خفي على الملائكة، وهو بيِّن ظاهر في القصة نفسها.
فها قد وقعت المعصية، بل شر المعصية، وأعظم الإباء والاستكبار على الله؛ ممن هو مخلوق قبل خلق آدم، وممن كان يعبد الله، كما تعبده الملائكة؛ فليس الخلقُ قبل آدم هم الخير الذي لا يأتي منه شرٌّ ولا عصيان لله ولا إفساد في الوجود، بل كان من هؤلاء الخلق قبل آدم: إبليس، الذي علم الله تعالى أن في نفسه غرورًا وكبرًا، وأنه إذا أُمِر: أبى، وإذا سئل عن سبب الإباء: استكبر وجادل ربَّ العالمين، وكان من الكافرين!
وإبليس: هو الذي سوف يوسوس لآدم وزوجه، ويغويهما، وهو الذي سيقسم أن يغوي ذريتهما، وسوف يتسبب في إفسادهم في الأرض وسفكهم الدماء، وخفي كل ذلك على الملائكة، ثم تبيَّن بما قصه الله تعالى، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
فليس الشأن كما ظنَّت الملائكة إذن، لذا قال الله تعالى لهم إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
(وفي الأمر الثاني): أن هؤلاء المستخلفين في الأرض، كما يكون فيهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، بإغواء إبليس لهم، واتباعهم له، لعنه الله، وأعاذنا منه؛ فكذلك يكون فيهم: الأنبياء والصديقون والصالحون، والشهداء الذين يحبون أن تسفك دماؤهم في سبيل رضا الله، وهذا مما خفي على الملائكة، وعلمَه الله تعالى، فقال الله تعالى لهم حين سألوا: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
وكذلك: يكون منهم التائبون العائدون بعد معصية، سنةَ أبيهم آدم، صلى الله عليه وسلم. فآدم، صلى الله عليه وسلم، سوف يعصي ربه بإغواء إبليس له، لكنه ليس الشر الذي لا خير فيه، فإنه إذا رأى أثر معصيته؛ ندمَ، وإذا سأله ربه معاتبًا؛ اعترفَ وتابَ وأنابَ وطلب الرحمة والمغفرة، فلذلك يجتبيه ربه ويهديه.
وآدم، عليه السلام، وزوجته: لما وقعت منهما المعصية ومخالفة الأمر، وحين سألهما ربُّهما عن المعصية: تابا وندما ورجعا: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الأعراف/22-23.
وخفي كل ذلك على الملائكة، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ!
فأي جواب أظهر من هذا، وأي حجةٍ أبين في قطع السؤال، وعدم توجهه على حكمة الخلق، لا طردًا، ولا عكسًا؟! وكله مما يتبين بتدبر القصة نفسها، لا غير، والحمد لله رب العالمين.
خامسًا:
الله عز وجل: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وهو تعالى وحده الذي يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه.
وقد أراد الله تعالى أن يخلق خلقا لهم اختيار بين المعصية والطاعة، وعندهم داعي الشهوة والهوى، فيختارون الطاعة والعبودية، ويذنبون، ثم يطلبون التوبة والأوبة والرحمة والمغفرة، بعد الاعتراف بالذنب، فيغفر الله لهم ويتوب عليهم، كما يحب، كما كان من آدم عليه السلام، ثم قد يصير التائبون بعد التوبة من الذنب إلى حال أكمل وأحسن من حالهم قبل التوبة، مثل آدم أيضًا.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا ابتُلي العبدُ بالذنب، وقد عُلم أنه سيتوب منه ويتجنبه؛ ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده: أن ذلك يزيده عبوديةً وتواضعًا وخشوعًا وذلًّا ورغبةً في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).
وذلك أيضًا يدفع عنه العجب والخيلاء، ونحو ذلك مما يعرِض للإنسان، وهو أيضًا يوجب الرحمة لخلق الله، ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة.
وهو أيضا يُبِين من فضل الله وإحسانه وكرمه، ما لا يحصل بدون ذلك، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم تذنبوا؛ لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم)"، انتهى من "منهاج السنة" (2/ 429).
ورب العالمين تعالى، من أسمائه: التواب، والغفور، والغافر، والحليم، والرحمن، والرحيم، فلا بد من مستغفر وتائب ومرحوم.
وقد قضى الله تعالى أن يرحمَ ويغضبَ، سبحانه، قبل أن يخلق الخلق، وجعله في كتاب مكتوب عنده تعالى (فوق العرش)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش) أخرجه البخاري (7554)، فالحمد لله رب العالمين.
والله تعالى يحب أن يستغفره العبيدُ فيغفر لهم، وأن يتوبوا فيتوب عليهم، ولذا خلق خلقًا يملكون الخيار، ويقدرون على الطاعة والمعصية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم)!! رواه مسلم (2748).
سادسًا:
آدم صلى الله عليه وسلم: لم يسفك الدماء، ولم يفسد في الأرض!
إن الله اصطفى آدم عليه السلام على العالمين، وكرَّمه، فخلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه تعالى، وأسجد له ملائكته، وكلَّمَه، وأسكنه الجنَّة، وهو عليه السلام وإن كان قد عصى ربَّه بالأكل من الشجرة، إلا أن الله تعالى قد تاب عليه بعد ذلك، واجتباه وهداه، وكل ذلك من محكَم كلام الله رب العالمين، لا يختلف فيه المسلمون.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وقال تعالى بعد أن ذكر أمرَ أكل آدم من الشجرة: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى.
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يوم القيامة يأتون أباهم آدم ليشفع لهم عند ربهم، فيقولون له: (يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة) رواه البخاري (3340)، ومسلم (327)، وهم إنما يذكرون ما منَّ الله به عليه من الفضائل والإكرام، يذكّرونه بمنزلته عند الله تعالى وفضله.
وقد جاء في سؤالك أنَّ: (آدم وذريته عصوا الله وارتكبوا كل الجرائم)! وهذا خلاف الحق!
وذِكْر آدم عليه السلام في هذا السياق الواحد، مع من ارتكبوا الجرائم كلها، وعبدوا الشيطان واتبعوه؛ خطأ بالغ، لا يتناسب مع عظيم منزلته عليه السلام، ولا مع التوقير الواجب له.
ثم هو أيضا كذب على آدم عليه السلام، لأنه لا يطابق الواقع، ولا الذي كان؛ فآدم عليه السلام بريء من الإفساد في الأرض، ومن سفك الدماء، وإنما عصى آدمُ قبل أن يهبط إلى الأرض، ثم اجتباه ربه بعد ذلك، لا قبل، فهبط إليها مجتبًى مكرمًا مهديًّا مرضيًّا عنه؛ وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" (2/ 429)، "ليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه، بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها، منقوصًا ولا مغضوضًا منه، بل هذا مفضَّل عظيم مكرَّم"، انتهى.
ثم إن الله الله جل جلاله، لم يذكر عن نبيه ومصطفاه آدم عليه السلام، معصية لربه، بعد ذلك أصلا؛ ولا عاتبه على شيء بدر منه، مدة بقائه في الأرض؛ فانتبه لذلك؛ ولا تغالط!!
عافاك الله مما وسمت به نفسك من "الشك"، أو "الارتياب"؛ وأبدلك منه برد اليقين، والروح، والرضا عن الله ربا، وعن الإسلام دينا، وعن محمد بن عبد الله نبيا، ورسولا؛ وردك إليه ردًّا جميلا.
والله أعلم.