حفظ
  • قائمة جديدة
المزيد
    حفظ
    • قائمة جديدة
24927/ذو الحجة/1446 الموافق 23/يونيو/2025

هل تصح نسبة كتاب (النصيحة الذهبية) للحافظ الذهبي؟

السؤال: 530239

ما صحة رسالة منسوبة للحافظ الذهبي اسمها "النصيحة الذهبية"؟ ومن المحققين صححها؟ وهذه الرسالة تذم ابن تيمية، فهل صحت هذه الرسالة عن الذهبي؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

ما يسمى بـ "الرسالة الذهبية" أو "النصيحة الذهبية"، هي رسالة يُزعم أن الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى أرسلها إلى شيخه وصاحبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى منكرا عليه سيرته في العلم ومعاملة الخصوم، والزعم بأنه قد تعمق فيما لا يفيد من الفلسفة، وناصحا له أن يتذكر الآخرة ويعمل لها، ويدع ما هو عليه.

وهذه الرسالة هي من نوع الرسائل الشخصية، وليست مما كتب لينشر على الناس، ويدل على هذا حجم الرسالة فقد جاءت تقريبا في صفحتين، وكذا ما ورد فيها من قول كاتبها: ( قد رضيت منك بأن تسبني علانية، وتنتفع بمقالتي سرا ) ولا يمكن أن ينتفع بها سرا إلا إذا كانت الرسالة شخصية غير منشورة بين الخلق.

نسوق بداية أهم ما ورد فيها من نقد، فمما جاء فيها:

" طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتبا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه، إلى كم ترى القذاة في عين أخيك، وتنسى الجذع في عينيك؟

إلى كم تمدح نفسك، وشقاشقك، وعباراتك، وتذم العلماء، وتتبع عورات الناس؟...

يا رجل! بالله عليك كف عنا، فإنك محجاج عليم اللسان، لا تقر ولا تنام، إياكم والغلوطات في الدين …

فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية؟ لنرد عليها بعقولنا، يا رجل! قد بلعت " سموم " الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات …

يا خيبة من اتبعك، فإنه معرض للزندقة والانحلال …

يا مسلم! أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار؟! إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار؟! إلى كم تعظمها وتصغر العباد؟! إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد؟! إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح - والله - بها أحاديث الصحيحين يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك. بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والاهدار، أو بالتأويل والانكار!

أما آن لك أن ترعوي؟! أما حان لك أن تتوب وتنيب؟!

أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل؟! بلى - والله - ما أدكر أنك تذكر الموت بل تزدري بمن يذكر الموت، فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي، بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات، وتقطع لي أذناب الكلام، ولا تزال تنتصر حتى أقول: ألبتة سكت. فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد فكيف حالك عند أعدائك؟! وأعداؤك - والله - فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء، كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر، قد رضيت منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرا … " انتهى. من حاشية كتاب "السيف الصقيل" (ص 151 – 153).

ثانيا:

أمام إثبات نسبة هذه الرسالة إلى الذهبي عدة اشكالات:

الإشكال الأول:

أن نص هذه الرسالة لم يسمع له بذكر في كتب أهل العلم من عصر الذهبي، إلى أن قام في عصرنا محمد زاهد الكوثري - الحنفي الماتريدي المعلن ببغضه لابن تيمية - بنشر نصها كما في ملحق تحقيقه لكتاب "السيف الصقيل"، حيث قال في حاشية الصفحة (148):

" بعث بها الذهبي إلى ابن تيمية … ظفرنا بها بخط التقي ابن قاضي شهبة منقولا عن خط الحافظ البرهان ابن جماعة المنقول من خط الحافظ أبي سعيد الصلاح العلائي المنسوخ من خط الشمس الذهبي نفسه …

وخط التقي ابن قاضي شهبة معروف، وتوجد كتب بخطه في دار الكتب المصرية والخزانة الظاهرية بدمشق … ففي إمكان الباحث الذي لا يعرف خط ابن قاضي شهبة أن يتأكد من خط المقارنة … " انتهى.

والمحققون المعاصرون، منهم من يوافق الكوثري على أن خط مخطوط هذه الرسالة هو خط ابن قاضي شهبة، كما ذهب إلى هذا الدكتور بشار عواد معروف، في كتابه "الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام" (ص 147).

ومنهم من يشكك في تشابه الخط، كما ذهب إلى هذا المحقق الشيخ مشهور حسن سلمان، حيث قال:

" وزعم الكوثري في مقدمة طبعته الأولى لهذه الرسالة، أنه وجد هذه الرسالة بخط ابن قاضي شهبة، وصور خطه، وقد طبع في الهند قبل عشر سنين كتاب "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة، وهذا الكتاب لابن قاضي شهبة باتفاق، ومن غير خلاف، والمحقق وقف على عدة نسخ، من بينها نسخة بخط ابن قاضي شهبة، وأثبت خط ابن قاضي شهبة في مقدمة "طبقات الشافعية" والذي يقارن بين خط ابن قاضي شهبة المزعوم في رسالة الكوثري، وبين خطه في كتاب "طبقات الشافعية" يجد فرقاً بين الأرض والسماء " انتهى. من "موقع الشيخ".

وراجع لمزيد الفائدة كتابه: "كتب حذر منها العلماء" (2 / 308).

وقد كان ابن تيمية في صراع مرير مع مخالفيه واستمرت سهام النقد موجهة إليه بعد مماته إلى اليوم، فكيف غاب عنهم نص هذه الرسالة في كل هذه القرون؟!

ثم لو تم التسليم بكون خط مخطوط الرسالة هو خط ابن قاضي شهبة، وكذا لو سلمنا بصحة إسنادها إلى العلائي، فهناك الاشكالات الآتية التي يتعسر التخلص منها.

الإشكال الثاني:

الذهبي تلميذ وصاحب لابن تيمية، وكان مقيما معه في نفس المدينة مدينة دمشق، ولم تكن يوما في تاريخها متباعدة الأطراف جدا بحيث يصعب التنقل بين أطرافها كحال بغداد، وكان ابن تيمية رحمه الله تعالى لا يحتجب عن أحد، بل كان دائم المخالطة لأهل العلم وطلابه وعامة الناس، متفرغا لإفادتهم، كما هو مشهور من سيرته، فما الحاجة لأن يراسل الذهبي ابن تيمية وهو قادر على لقائه في كل ساعة؟! فعادة أهل العلم التراسل عند تعذر اللقاء كبعد المسافة.

الإشكال الثالث:

لو سلمنا أنه يمكن تصور أن يرسل له الرسالة ولا يلقاه بسبب عدم القدرة على الوصول إليه كأن تكون هذه الرسالة أرسلت إليه في فترة سجنه، فهنا يظهر إشكال آخر وهو وجود حلقة مفقودة في إسناد هذه الرسالة، فالمفترض عقلا أنها ما دامت رسالة شخصية، فستكون في ملك شيخ الإسلام ابن تيمية، فمن نقلها من ملك ابن تيمية إلى العلائي وأخبره أنها من الذهبي إلى ابن تيمية؟! مجهول، فصدر الرسالة خال من ذكر المُرسِل والمرسَل إليه، ونصها خال من ذكر اسم ابن تيمية.

الإشكال الرابع:

مصنفات الذهبي كثيرة ومتنوعة ومشهورة، ونص هذه الرسالة لا يشبه شيئا من هذه الكتب، لا في الأسلوب ولا في المفردات، كما أن عادة الذهبي في كتبه سواء قبل وفاة ابن تيمية أو بعد وفاته لا يذكره إلا مثنيا عليه ويذكره كثيرا باسم شيخنا، وأحيانا يسوق أقواله مستأنسا بها، كقوله رحمه الله تعالى:

" قلت: هكذا كان والله شيخنا ابن تيمية، بقي أزيد من سنة يفسر في سورة نوح، وكان بحرا لا تكدره الدلاء رحمه الله " انتهى. "تاريخ الإسلام" (9 / 736).

وكقوله رحمه الله تعالى:

" وذهب شيخنا ابن ‌تيمية، وهو من أهل الاجتهاد لاجتماع الشرائط فيه " انتهى. "تاريخ الإسلام" (7 / 164).

ثم قارن هذه الرسالة المزعومة، مع ما قاله ابن ناصر الدين رحمه الله تعالى:

" وقال الحافظ أبو عبد الله الذّهبيّ مرّة أخرى في ترجمة الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيمية: وله باع طويل في معرفَة مذاهب الصّحابة والتّابعين ... ولقد نصر السّنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إليها.

وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها، حتّى قام عليه خلق من علماء مصر والشّام قياما لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكاتبوه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الّذي أدّاه إليه اجتهاده، وحِدة ذهنه، وسعة دائرته في السّنن والأقوال، مع ما اشتهر منه من الورع، وكمال الفكر، وسعة الإِدراك، والخوف من الله العظيم والتعظيم لحرمات الله … " انتهى. "الرد الوافر" (ص 70 – 71).

وقد رجّح محمد القونوي في كتابه "أضواء على الرسالة المنسوبة إلى الحافظ الذهبي" أن هذه الرسالة في أسلوبها، ومحتواها أشبه بأسلوب واعتقاد كمال الدين محمد بن أبي الحسن علي السراج الرفاعي، وكان جارا وصديقا لابن تيمية في عهد الطفولة، ثم فرّق بينهما الاعتقاد والمكان، فكمال الدين هذا كان أشعريا صوفيا رفاعيا، وكان قد فارق دمشق إلى بلدة بعيدة عنها لتولي منصب القضاء فيها، وكان يكثر الكتابة إلى ابن تيمية منتقدا ومخالفا له، ومن يطالع أقواله عن ابن تيمية يجدها بنفس المعاني الواردة في هذه الرسالة، وقد ساق الكاتب جملة منها، فتحسن مطالعة هذا الكتاب على وجه الخصوص من الصفحة (41) وما بعدها.

الإشكال الخامس:

أن القول بثبوت نسبة هذه الرسالة إلى الذهبي، يلزم منه خلل كبير في شخصية الذهبي العلمية، واختلال في "ميزانه" الذي يزن به الرجال، وغياب "الاعتدال" في مواقفه المتقابلة من "شيخه"!!

فالذهبي في هذه الرسالة يرى كاتبها: أن من اتبع ابن تيمية فقد عرض نفسه للزندقة وهذا أمر شديد الخطورة، كما جاء في نص هذه الرسالة: " فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية؟ لنرد عليها بعقولنا، يا رجل! قد بلعت " سموم " الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات …

يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال … " انتهى.

فالقول بأنها للذهبي يلزم منه أنه كان يبطن غير ما يظهر في مصنفاته وأمام الناس، حيث ينصح ابن تيمية في السر، وأما في العلن فيغش القراء وطلاب العلم، ولا ينصحهم باتقاء ما قد يسقطهم في الزندقة؟! فيثني في مصنفاته وأمام الناس على ابن تيمية ويصاحبه، وهو يعلم أن هذه الصحبة تورث الزندقة، وصحبته لابن تيمية كانت ظاهرة يعلم بها الجميع، حتى قال تاج الدين السبكي وكان مخالفا لابن تيمية وأصحابه:

" واعلم أن هذه ‌الرّفقة، أعني الْمزي والذهبي والبرزالي، وكثيرا من أتباعهم: أضرّ بهم أبو العبّاس ابن تيمية إضرارا بَيّنا … " انتهى. "طبقات الشافعية الكبرى" (10 / 400).

فنفي هذه الرسالة عن الذهبي رحمه الله تعالى هو الأليق بحاله ومقامه في العلم والدين.

ثالثا:

لو سلمنا أن المُرسِل لها هو الذهبي، والمُرسَل إليه هو ابن تيمية، فهذه الرسالة لا تضر ابن تيمية في شيء؛ لأن الطعن الوارد في هذه الرسالة، كما هو ظاهر لا يتعلق بأمور شخصية أو حوادث مضت ومضت شواهدها، وإنما متعلقة بسيرة ابن تيمية في نشر العلم ودعوة الناس، وتراث ابن تيمية في هذ الشأن قد حفظ لنا في عشرات المجلدات، فكل باحث منصف له القدرة على عرض محتوى هذه الرسالة على تراث ابن تيمية، وعلى سيرته التي رواه الجمع من أهل العلم ومنهم الذهبي نفسه، فإنه لن يجد لهذه التهم أثرا.

الخلاصة:

الراجح أن هذه الرسالة لا تصح نسبتها إلى الذهبي رحمه الله تعالى؛ لأن إسنادها إلى الذهبي لا يخلو من إشكال، ومحتواها مخالف للمتواتر المقطوع بصحته من سيرة ابن تيمية والذهبي رحمهما الله تعالى.

وما رجحه الشيخ محمد القونوي في كتابه "أضواء على الرسالة المنسوبة إلى الحافظ الذهبي" من أن هذه الرسالة لكمال الدين محمد بن أبي الحسن علي السراج الرفاعي، وليست للذهبي، هذا الترجيح له وجه قوي يظهر لمن يطالع هذا الكتاب.

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

خيارات تنسيق النص

خط النص

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android