أولًا :
النمرود ، هو : هو ملك بابل ، واسمه : النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ، كان أحد ملوك الدنيا ؛ فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : ذو القرنين وسليمان ، والكافران النمرود وبختنصر ، وذكروا أنَّ نمروداً هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة ، وكان قد طغا وبغا وتجبر وعتا وآثر الحياة الدنيا ، ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع فحاج إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية.
انظر : "البداية والنهاية" ، لابن كثير (1/ 342).
ثالثًا :
إنما ذكر العلماء قصة "النمرود" ، وما تعلق بشأنها ، تبعًا لعلماء التاريخ والأنساب .
وقد ذكر قصة "النمرود" بتمامها الإمام "ابن كثير" ، فقال في "البداية والنهاية" (1/ 342 - 345) :
" ذِكْرُ مُنَاظَرَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنَازِعَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ فِي إِزَارِ الْعَظَمَةِ وَرِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ فَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَهُوَ أَحَدُ الْعَبِيدِ الضُّعَفَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة : 258] . [الْبَقَرَةِ : 258] . يَذْكُرُ تَعَالَى مُنَاظَرَةَ خَلِيلِهِ مَعَ هَذَا الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الْمُتَمَرِّدِ الَّذِي ادَّعَى لِنَفْسِهِ الرُّبُوبِيَّةِ فَأَبْطَلَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلَهُ ، وَبَيَّنَ كَثْرَةَ جَهْلِهِ وَقِلَّةَ عَقْلِهِ ، وَأَلْجَمَهُ الْحُجَّةَ وَأَوْضَحَ لَهُ طَرِيقَ الْمَحَجَّةِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ وَالْأَخْبَارِ : وَهَذَا الْمَلِكُ هُوَ مَلِكُ بَابِلَ ، وَاسْمُهُ النُّمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ بْنِ كُوشِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ : نُمْرُودُ بْنُ فَالِحِ بْنِ عَابَرَ بْنِ صَالِحِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ : وَكَانَ أَحَدَ مُلُوكِ الدُّنْيَا.
فَإِنَّهُ قَدْ مَلَكَ الدُّنْيَا ، فِيمَا ذَكَرُوا ، أَرْبَعَةٌ : مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ ، فَالْمُؤْمِنَانِ ؛ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَسُلَيْمَانُ. وَالْكَافِرَانِ ؛ النُّمْرُودُ وبُخْتُنَصَّرَ .
وَذَكَرُوا أَنَّ نُمْرُودًا هَذَا اسْتَمَرَّ فِي مُلْكِهِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ ، وَكَانَ قَدْ طَغَا وَبَغَا وَتَجَبَّرَ وَعَتَا ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَلَمَّا دَعَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، حَمَلَهُ الْجَهْلُ وَالضَّلَالُ، وَطُولُ الْإِمْهَالِ، عَلَى إِنْكَارِ الصَّانِعِ ، فَحَاجَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ فِي ذَلِكَ ، وَادَّعَى لِنَفْسِهِ الرُّبُوبِيَّةَ ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ الْخَلِيلُ : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة : 258] .
قَالَ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا أُتِيَ بِالرَّجُلَيْنِ قَدْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُمَا، فَإِذَا أَمَرَ بِقَتْلِ أَحَدِهِمَا ، وَعَفَا عَنِ الْآخَرِ ، فَكَأَنَّهُ قَدْ أَحْيَا هَذَا وَأَمَاتَ الْآخَرَ . وَهَذَا لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ لِلْخَلِيلِ ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ خَارِجِيٌّ عَنْ مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ ، لَيْسَ بِمَنْعٍ وَلَا بِمُعَارَضَةٍ ، بَلْ هُوَ تَشْغِيبٌ مَحْضٌ ، وَهُوَ انْقِطَاعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَإِنَّ الْخَلِيلَ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْمُشَاهَدَاتِ ؛ مِنْ إِحْيَاءِ الْحَيَوَانَاتِ وَمَوْتِهَا ، عَلَى وُجُودِ فَاعِلِ ذَلِكَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنِ اسْتِنَادِهَا إِلَى وُجُودِهِ ضَرُورَةً ، وَعَدَمِ قِيَامِهَا بِنَفْسِهَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ لِهَذِهِ الْحَوَادِثِ الْمُشَاهَدَةِ ؛ مِنْ خَلْقِهَا ، وَتَسْخِيرِهَا ، وَتَسْيِيرِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ ، وَالرِّيَاحِ ، وَالسَّحَابِ ، وَالْمَطَرِ ، وَخَلْقِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُوجَدُ مُشَاهَدَةً ، ثُمَّ إِمَاتَتِهَا. وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة : 258] .
فَقَوْلُ هَذَا الْمَلِكِ الْجَاهِلِ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة : 258] . إِنْ عَنَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِهَذِهِ الْمُشَاهَدَاتِ ، فَقَدْ كَابَرَ وَعَانَدَ .
وَإِنْ عَنَى مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِكَلَامِ الْخَلِيلِ ؛ إِذْ لَمْ يَمْنَعْ مُقَدِّمَةً ، وَلَا عَارَضَ الدَّلِيلَ .
وَلَمَّا كَانَ انْقِطَاعُ مُنَاظَرَةِ هَذَا الْمَلِكِ قَدْ تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ حَضَرَهُ وَغَيْرِهِمْ ، ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ بَيَّنَ وُجُودَ الصَّانِعِ ، وَبُطْلَانَ مَا ادَّعَاهُ النُّمْرُودُ ، وَانْقِطَاعَهُ جَهْرَةً قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة : 258] . أَيْ: هَذِهِ الشَّمْسُ مُسَخَّرَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ ، كَمَا سَخَّرَهَا خَالِقُهَا وَمُسَيِّرُهَا وَقَاهِرُهَا ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِنْ كُنْتَ كَمَا زَعَمْتَ مِنْ أَنَّكَ الَّذِي تُحْيِي وَتُمِيتُ، فَأْتِ بِهَذِهِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ ، فَإِنَّ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ ، بَلْ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ ، فَإِنْ كُنْتَ كَمَا تَزْعُمُ ، فَافْعَلْ هَذَا ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْهُ فَلَسْتَ كَمَا زَعَمْتَ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ، وَكُلُّ أَحَدٍ : أَنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا ، بَلْ أَنْتَ أَعْجَزُ ، وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ تَخْلُقَ بَعُوضَةً ، أَوْ تَنْتَصِرَ مِنْهَا .
فَبَيَّنَ ضَلَالَهُ وَجَهْلَهُ ، وَكَذِبَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ ، وَبُطْلَانَ مَا سَلَكَهُ وَتَبَجَّحَ بِهِ عِنْدَ جَهَلَةِ قَوْمِهِ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ كَلَامٌ يُجِيبُ الْخَلِيلَ بِهِ ، بَلِ انْقَطَعَ وَسَكَتَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة : 258] .
وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ كَانَتْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ النُّمْرُودِ يَوْمَ خَرَجَ مِنَ النَّارِ ، وَلَمْ يَكُنِ اجْتَمَعَ بِهِ إِلَّا يَوْمَئِذٍ ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ النُّمْرُودَ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ ، وَكَانَ النَّاسُ يَفِدُونَ إِلَيْهِ لِلْمِيرَةِ ، فَوَفَدَ إِبْرَاهِيمُ فِي جُمْلَةِ مَنْ وَفَدَ لِلْمِيرَةِ ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ ، وَلَمْ يُعْطَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا أُعْطِيَ النَّاسُ ، بَلْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ أَهْلِهِ ، عَمَدَ إِلَى كَثِيبٍ مِنَ التُّرَابِ فَمَلَأَ مِنْهُ عِدْلَيْهِ. وَقَالَ أَشْغَلُ أَهْلِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ ، فَلَمَّا قَدِمَ وَضَعَ رِحَالَهُ ، وَجَاءَ فَاتَّكَأَ فَنَامَ ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ سَارَةُ إِلَى الْعِدْلَيْنِ فَوَجَدَتْهُمَا مَلْآنَيْنِ طَعَامًا طَيِّبًا ، فَعَمِلَتْ مِنْهُ طَعَامًا ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إِبْرَاهِيمُ، وَجَدَ الَّذِي قَدْ أَصْلَحُوهُ ، فَقَالَ : أَنَّى لَكُمْ هَذَا؟ قَالَتْ : مِنَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ. فَعَرَفَ أَنَّهُ رِزْقٌ رَزَقَهُمُوهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : وَبَعَثَ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ ، مَلَكًا يَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ ، فَأَبَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ ، فَأَبَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ ، فَأَبَى عَلَيْهِ. وَقَالَ : اجْمَعْ جُمُوعَكَ ، وَأَجْمَعُ جُمُوعِي. فَجَمَعَ النُّمْرُودُ جَيْشَهُ وَجُنُودَهُ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذُبَابًا مِنَ الْبَعُوضِ بِحَيْثُ لَمْ يَرَوْا عَيْنَ الشَّمْسِ ، وَسَلَّطَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ ، وَتَرَكَتْهُمْ عِظَامًا بَالِيَةً ، وَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي مَنْخَرَيِ الْمَلِكِ ، فَمَكَثَتْ فِي مَنْخَرَيْهِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ ، عَذَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا ، فَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِالْمَرَازِبِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا ، حَتَّى أَهْلَكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ " ، انتهى .
وانظر أيضا : "تاريخ الطبري" (1/ 233)، "تاريخ ابن خلدون" (2/ 38).
رابعًا :
وقد تحدثنا بالتفصيل عن "بختنصر" في الجواب رقم (280041) ، وخلاصته ذلك أنه : " لا يعرف في نصوص الوحي الثابتة ما ينص على زمن بختنصر ؛ وما ورد عن السلف في كونه بعد عيسى عليه السلام ، فغالب الظن أنها أخبار مأخوذة عن أهل الكتاب ، فيرجع الخلاف إلى روايات أهل الكتاب ، وأهل التاريخ يرجحون الروايات القائلة بأنه كان قبل زمن عيسى عليه السلام".
والله أعلم.