الخميس 23 شوّال 1445 - 2 مايو 2024
العربية

لماذا استغفر نبي الله إبراهيم لوالده وهو كافر؟

406931

تاريخ النشر : 19-06-2023

المشاهدات : 7134

السؤال

لقد استشكل علي مسألة استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه، ففي أول الأمر قال إبراهيم عليه السلام: (إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله)، ولا شك أن أباه مقصود بهذا؛ فقد قال الله سبحانه: ( إذ قال لأبيه وقومه)، ثم استغفر له، فقيل: إنه وعده بهذا، أليس من وعد أحدا بمحرم فيجب عليه أن لا يفي بوعده؟ ويوم القيامة حين يلقى إبراهيم أباه يحاول أن يشفع له عند الله تعالى، كيف يحصل ذلك، وهو يعلم أن الله لن يرحم الكافرين؟ وقول من قال: إنه رق قلبه!، كيف يرق قلبه وهو الحنيف المتبرئ من الطاغوت!، فالحاصل أن المسألة تحتاج تحقيقا وجوابا على عدة أسئلة؟

الجواب

الحمد لله.

لا شك أن نبي الله إبراهيم عليه السلام لم يرتكب نهيا بهذا الاستغفار لوالده، وأنه لم يَعِد والده بأمر كان محرما عليه عند وعده إياه؛ بدليل أن الله تعالى لم يعاتبه على هذا الوعد، بل بيّن عذره فيه، وأثنى عليه بأنه لما تبيّن له أن والده عدو لله ، تبرأ منه ، وكف عن الاستغفار له؛ فوفى إبراهيم عليه السلام بوعده ، وتبع أمر ربه .

قال الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ، وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ التوبة/113-114.

وهذه الموعدة، هي الواردة في قوله تعالى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا مريم/46 – 47.

فتبرأ منه براءة تستوجب ترك الاستغفار له، لما علم أنه عدو لله تعالى، وذلك بموته على الكفر، كما نص على هذا جمع من أهل التفسير.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" وقوله: ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ )، قال ابن عباس: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدو لله، تبرأ منه.

وفي رواية: لما مات تبين له أنه عدو لله.

وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغيرهم، رحمهم الله " انتهى من "تفسير ابن كثير" (4/ 225).

وهو القول الذي رجّحه الإمام الطبري، حيث قال رحمه الله تعالى:

" وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قولُ الله؛ وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبيّن له أنّ أباه لله عدوّ، تبرّأ منه، وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدوٌّ، وهو به مشرك، وهو حالُ ثبوته – وفي نسخة: موته - على شركه " "تفسير الطبري" (12/33).

وأما عداوة والده لله تعالى أثناء حياته، فكان يرجى أن يقلع عنها بإسلامه ؛ فكان يستغفر له عساه أن يؤمن، مادام باب التوبة لم يغلق بحضور الموت.

روى عبد الرزاق في "المصنف" (6/40) بإسناد رواته ثقات، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: تُوُفِّيَ أَبُو رَجُلٍ، وَكَانَ يَهُودِيًّا فَلَمْ يَتَّبِعْهُ ابْنُهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَمَا عَلَيْهِ لَوْ غَسَّلَهُ، وَاتَّبَعَهُ، وَاسْتَغَفَرَ لَهُ مَا كَانَ حَيًّا يَقُولُ: دَعَا لَهُ مَا كَانَ الْأَبُ حَيًّا، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)، يَقُولُ: لَمَّا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ ).

قال ابن حزم رحمه الله تعالى:

" … قول إبراهيم عليه السلام لأبيه واستغفاره له... لأنه لم يكن نُهي عن ذلك، قال تعالى: ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ )، فأثنى الله تعالى عليه بذلك، فصح أن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان مدة حياته راجيا إيمانه، فلما مات كافرا، تبرأ منه، ولم يستغفر له بعدها " انتهى من "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (4/18).

ولهذا نص جمع من أهل على جواز الاستغفار للكافر الحي ، على نية لازم الاستغفار، وهو الهداية إلى الإيمان، كما مضى في قول ابن عباس رضي الله عنه.

قال ابن بطال رحمه الله تعالى:

" فرض على جميع المؤمنين، متعين على كل واحد منهم ألا يدعو للمشركين، ولا يُستغفر لهم إذا ماتوا على شركهم، لقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).

فإن قيل: إن إبراهيم استغفر لأبيه وهو كافر؟

فالجواب: أن الله قد بيَّن عذره في ذلك، فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ )، فدعا له وهو يرجو إجابته ورجوعه إلى الإيمان، ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ).

ففي هذا من الفقه: أنه جائز أن يُدعى لكل من يرجى من الكفار إنابته: بالهداية؛ ما دام حيا" انتهى من "شرح صحيح البخاري" (3 /351 – 352).

قال الشوكاني رحمه الله تعالى:

" قوله: ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ ) الآية: ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه، أنه كان لأجل وعد تقدم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له، ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدو لله، وأنه غير مستحق للاستغفار، وهذا يدل على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار، ومن أعداء الله.

فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين: أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم؟

فإنه لم يخفَ عليه تحريم الاستغفار لمن أصر على الكفر، ومات عليه، وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدو الله، فإن ثبوت هذه العداوة تدل على الكفر، وكذلك لم يعلم نبينا صلى الله عليه وسلم بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل " انتهى من "فتح القدير" (ص 603).

وكما يشير إلى هذا ما رواه البخاري (3477)، ومسلم (1792) عن عَبْد اللَّهِ بن مسعود، قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ .

قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى:

" هذا يدل على ابتلاء الأنبياء وصبرهم العظيم .. وهذا الدعاء يتضمن طلب الهداية لهم؛ لأن المغفرة تابعة للهداية. فقوله: (اللهم اغفر لهم) مستلزم الهداية" انتهى من " التعليقات البازية" (3/104).

ولو فرض أنه قد استغفر له بعد موته، فلا شك أنه استغفر له وهو لا يعلم بأنه قد مات على الكفر.

قال أبو طالب القضاعي رحمه الله تعالى:

" وتبرؤ إبراهيم منه على أي التأويلين كان يؤذن بأنه لم يستغفر له إلا في الوقت الذي يجوز الاستغفار له، وذلك قبل أن يموت على شركه.

ثم لو فرضنا أن دعاء إبراهيم عليه السلام إنما كان لأبيه بعد موته ؛ فلابد أن نفرض أيضا أن إبراهيم دعا له في الوقت الذي لا يعلم أنه مات على الكفر، ولابد ؛ إذ في الممكن أن يموت آزر وإبراهيم عليه السلام غائب عنه، فيُجَوِّز صلّى الله عليه وسلَّم أن يموت أبوه على الإيمان ، فيستغفر له من هذا الوجه، لا سيما على قول من قال إنه قد كان وعده أن يسلم، ويكون تبري إبراهيم - عليه السلام - بعد ذلك منه عندما علم بموته على الكفر، وسواء علم ذلك بوحي أو بغيره.

وإنما حملنا على هذا التقدير: عِلْمُنا بأن الشرائع متفقة على أن المشرك لا يغفر له، وأن الإيمان هو الشرط في الغفران ..." انتهى من "تحرير المقال" (2/ 559 — 560).

وبناء على هذا فيحتمل أن إبراهيم عليه السلام لم تتبيّن له عدواة والده الدائمة لله تعالى إلا بعد موته ثم بعثه يوم القيامة.

وبهذا الإحتمال يمكن أن يفسر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لاَ تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَاليَوْمَ لاَ أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ رواه البخاري (3350).

كما ذهب إلى هذا بعض أهل العلم.

وعلى الوجه الأول المشهور، الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه واتبعه عليه جمع من أهل العلم، وهو أن إبراهيم عليه السلام علم بموت والده على الكفر فتبرأ منه حينئذ وترك الإستغفار له.

فتكون شفاعته لوالده يوم القيامة دافعها الشفقة لرهبة الموقف.

قال ابن حجر رحمه الله تعالى:

" ويمكن الجمع بين القولين بأنه تبرأ منه لما مات مشركا فترك الاستغفار له، لكن لما رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقة ، فسأل فيه، فلما رآه مسخ يئس منه حينئذ فتبرأ منه تبرءا أبديا، وقيل: إن إبراهيم لم يتيقن موته على الكفر بجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم على ذلك وتكون تبرئته منه حينئذ بعد الحال التي وقعت في هذا الحديث " انتهى من "فتح الباري" (8/501).

وهذه الشفاعة ليس مستندها الهوى، بل هي مستندة إلى أمر من الوحي، وهو وعده تعالى بأن لن يخزيه، ففهم  إبراهيم عليه السلام من ذلك أن حشر والده إلى النار نوع من الخزي، فتوسل إلى الله تعالى بهذا الوعد، كما هو ظاهر من لفظ الحديث:  فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟ .

وهذا كما حصل من نوح عليه السلام، حيث توسّل إلى الله تعالى بوعده له بنجاة أهله.

قال الله تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هود/45 – 46.

حيث أمره الله تعالى بحمل أهله في السفينة، ففهم أن الإبن من ضمنهم، وذلك في قوله تعالى:

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ هود/40.

فالحاصل؛ أن إبراهيم عليه السلام لم يعارض أمرا من الوحي بعقله، وإنما بفهم من وحي سابق عنده، وهذا ضرب من الاجتهاد المشروع.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب