ورود الخبر بإسنادين؛ أحدهما مرسل والآخر موصول

01-09-2021

السؤال 349446

بارك الله فيكم على الجهد المشكور والخير الذي تقدمونه للناس. أنا طالب مبتدئ في علم الحديث بشكل عام. إذا وجدنا حديثا صحيحا، لم يُذكر فيه من الراوي الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يمكن الاستشهاد بحديث أقل منه صحة، ذُكِرَ فيهِ اسم الراوي ومن هو؟ فهناك حديث بإسناد صحيح ظاهريا رواه الزهري عن علي بن الحسين عن رجل من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، والرجل هذا لا يعلم أهو صحابي أو لا. حتى أن الحافظ ابن حجر العسقلاني قال: رجاله ثقات وهو صحيح إن كان الرجل صحابيا. وبعد فترة وقفت على إسناد حسن لنفس الحديث، عن الزهري عن علي بن الحسين عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بعبارة أصح: هل يمكن أن نقول أن الراوي الذي في الإسناد الصحيح هو الصحابي جابر رضي الله عنه، مستشهدين بذلك بالإسناد الحسن؟

الجواب

الحمد لله.

مسألة تعارض الوصل والإرسال

ورود الحديث من طريقين رواتهما ثقات، وأحد الطريقين يبهم فيه عمن أخذ التابعي الخبر، والطريق الآخر يصرح بالواسطة وأنه صحابي.

هذه المسألة تدخل ضمن مسألة تعارض الوصل والإرسال، وهي بدورها يتناولها المبحث المشهور في علم الحديث المعروف بـ "زيادة الثقة".

وهذا القضية لا يوجد فيها قاعدة مطردة تتبع، وإنما يرجع في هذا إلى القرائن المحتفة بكل حديث على حدة، فأحيانا تترجح صحة الزيادة وصحة الوصل، وأحيانا يترجح ضعف الزيادة وضعف الوصل.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" قوله: " في ذكر الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلا ، وبعضهم متصلا - فحكى الخطيب أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل... ".

... وتعقبه أبو الفتح ابن سيد الناس قائلا:... بأن ليس لهم في ذلك عمل مطرد...

وما اختاره ابن سيد الناس سبقه إلى ذلك شيخه ابن دقيق العيد، فقال في مقدمة شرح الإلمام:

"من حكى عن أهل الحديث، أو أكثرهم، أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند ، أو رافع وواقف، أو ناقص وزائد: أن الحكم للزائد؛ فلم يصب في هذا الإطلاق؛ فإن ذلك ليس قانونا مطردا، وبمراجعة أحكامهم الجزئية [تعرف] صواب ما نقول".

وبهذا جزم الحافظ العلائي فقال:

" كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم ، يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي؛ بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث حديث ".

قلت: وهذا العمل الذي حكاه عنهم إنما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح... " انتهى. "النكت" (2 / 603 - 605).

ومن الأمثلة الإسناد الذي أشرت إليه في السؤال.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

"ما أخرجه الحاكم... من حديث جابر رفعه: (تمد الأرض مد الأديم ، ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه) ، ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف على الزهري في صحابيه." انتهى. "فتح الباري" (11 / 376).

فروى الحارث ابن أبي أسامة في "مسنده" كما في "بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث" (1131) للهيثمي.

قال الحارث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ، أَنْبَأَنا إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 تُمَدُّ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ، لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَكُونُ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فِيهَا إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أُدْعَى أَوَّلَ النَّاسِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أَخْبِرْنِي هَذَا، وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، وَاللَّهِ مَا رَآهُ قَطُّ قَبْلَهَا، أَنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ، وَجِبْرِيلُ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فِي الشَّفَاعَةِ فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ، عِبَادُكَ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ  .

وإبراهيم الراوي عن الزهري، هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري.

لخص حاله الذهبي رحمه الله تعالى بقوله:

"ثقة. سمع من الزهري والكبار، ينفرد بأحاديث تُحتمل له، ولكن ليس هو في الزهري بذاك الثبت " انتهى. "من تكلم فيه وهو موثق." (ص 63).

والراوي عنه، وهو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ.

قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" (ص 471):

"محمد بن جعفر بن زياد الوَرَكاني أبو عمران الخراساني، نزيل بغداد: ثقة." انتهى

وقد خالفه إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيُّ، فرواه عن إبراهيم بن سعد ، مصرحا باسم شيخ علي بن الحسين ، وأنه الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

فروى الحاكم في "المستدرك" (4 / 570)، قال: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الشَّعْرَانِيُّ، حدثَنَا جَدِّي، حدثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيُّ، حدثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:  تُمَدُّ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَدًّا لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ.. .

وقال الحاكم: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ."

وإبراهيم بن حمزة الزبيري، من رواة البخاري.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

"إبراهيم بن حمزة الزبيري أبو إسحاق المدني، عن: إبراهيم بن سعد، وابن أبي حازم. وعنه: البخاري، وأبو داود، وإسماعيل القاضي، وطائفة. قال أبو حاتم: صدوق." انتهى "الكاشف" (1 / 211).

وجدّ إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الشَّعْرَانِيّ هو: الفضل بن محمد البيهقى أبو محمد الشعرانى، وقد وثق، وكذا تكلِّم فيه.

قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:

"الفضل بن محمد البيهقى أبو محمد الشعرانى النيسابوري روى عن اسماعيل بن أبي أويس وسعيد بن ابى مريم وكاتب الليث وسعيد بن منصور كتبت عنه بالري، وتكلموا فيه." انتهى من "الجرح والتعديل" (7 / 69).

فالحاصل؛ أنه اختلف على إبراهيم بن سعد ، فرواه عنه مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ بإبهام شيخ علي بن الحسين.

ورواه عنه إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيُّ مبيّنا اسم الشيخ ، وأنه الصحابي جابر رضي الله عنه.

والظاهر أن هذا وهم؛ لأنّه قد ورد من طرق أخرى عن الزهري على وفق رواية محمد بن جعفر الوركاني، أي بإبهام اسم شيخ علي بن الحسين.

قال الحاكم رحمه الله تعالى:

"وَقَدْ أَرْسَلَهُ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ." انتهى من "المستدرك" (4 / 571).

فأما رواية يونس بن يزيد فقد أخرجها الحاكم بإسناد رواته ثقات "المستدرك" (4 / 571)، قال:

حَدَّثنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَنْبَأَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَنْبَأَنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يُسَمِّهِ:  أَنَّ الْأَرْضَ تُمَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..  ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ.

وأما رواية معمر فأخرجها نعيم بن حماد في "زوائد كتاب الزهد" (ص 111)، قال:

أخبرنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  تُمَدُّ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَدَّ الْأَدِيمِ... .

وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر في "التفسير" (2 / 313).

ومعمر ويونس أطول صحبة للزهري وأوثق فيه من إبراهيم بن سعد.

بل هما من أخص الرواة عن الزهري.

قال ابن أبي خيثمة رحمه الله تعالى:

"وسمعت يحيى بن معين يقول: أثبت الناس في الزهري: مالك، وهو أحب إلي من سفيان ويونس ومعمر وعقيل.

وقال يحيى بن معين: معمر أثبت في الزهري من ابن عيينة.

وسمعت يحيى بن معين يقول: ويونس ومعمر عالمين بالزهري." انتهى من "التاريخ" (1 / 272).

ومخالفة الراوي لمن هم أوثق منه هو نوع من الشذوذ، فيحكم بالصحة لجماعة الحفاظ؛ فكيف إذا كان قد اختلف عليه ، فمرة يوافق الجماعة، ومرة يخالفهم؟!

قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:

"والجهة الاخرى أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثا عن مثل الزهري أو غيره من الائمة ، بإسناد واحد، ومتن واحد، مجتمعون على روايته في الإسناد والمتن ، لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم ، عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه ، فيخالفهم في الإسناد ، أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ= فيُعلم حينئذ أن الصحيح من الروايتين: ما حدث الجماعة من الحفاظ ، دون الواحد المنفرد وان كان حافظا.

على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث، مثل شعبة وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أئمة أهل العلم.

وسنذكر من مذاهبهم وأقوالهم في حفظ الحفاظ ، وخطأ المحدثين في الروايات ، ما يستدل به على تحقيق ما فسرت لك إن شاء الله... " انتهى. "التمييز" (ص 172).

فالحاصل؛ أن الراجح أنّ ذكر جابر وهم ، ولعله من إبراهيم بن سعد ، كما يشير إلى هذا قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فيما رواه أبو داود:

" سمعت أحمد، قال: شهدت إبراهيم بن سعد وذكر عن الزهري (الْمَاعُونَ)؛ المالُ -بلسان قريش.

قيل له: إنما حدثتنا به عن الزهري، عن سعيد؟!

قال: لا، وأنكره، إنما هو عن الزهري.

قال أحمد: رواه عنه غير واحد عن سعيد.

قال أحمد: ربما حدث بالشيء من حفظه " انتهى. "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود" (ص 405).

والله أعلم.

مصطلح الحديث
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب