حكم سب الفساق والكفار المعينين بعد هلاكهم

07-11-2019

السؤال 287456

قرأت على موقعكم أن الفاسق والكافر يجوز غيبته ؛ لأنه لا حرمة له حال فسقه ، فهل ذلك أيضا إن كان ميتا ؟ فإنه إن كان ميتا يكون قد انتهى فسقه وكفره ؟ وهل معنى لا حرمة له أي أن سبّه وسوء الظن به أيضا لا يحرم ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

بالنسبة لسبّ وغيبة المسلم الفاسق ؛ فالأصل في المسلم أنه يحرم الاعتداء على عرضه .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لَا يَظْلِمُهُ ، وَلَا يَخْذُلُهُ ، وَلَا يَحْقِرُهُ ... بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ  رواه مسلم (2564).

والمسلم الذي يقع في المعاصي غير المكفرة ؛ لا تسقط أخوته الإيمانية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" ومن أصول أهل السنة: ... لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ )، وقال: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) " انتهى من "مجموع الفتاوى" (3 / 151).

لكن إن كانت هناك مصلحة شرعية راجحة، جاز في هذه الحال غيبته وذكره بما فيه – فقط - من السوء؛ لأجل المصلحة الشرعية المعتبرة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :

" قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا؛ حيث تتعين طريقا إلى الوصول إليه " انتهى من " فتح الباري " (10 / 472).

ومن ذلك: أن يكون الميت ممن كان يجاهر بالمعاصي؛ وبقي أثره بعد موته، فيذكر بالسوء حتى لا يُقتدى به في فجوره وعصيانه، ومما يشير إلى ذلك حديث أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: " مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  وَجَبَتْ  ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ:  وَجَبَتْ  ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ:  هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ " رواه البخاري (1367) ، ومسلم (949).

وأمّا حديث النهي عن سبّ الأموات؛ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا ) رواه البخاري (1393).

فإنه يستثنى منه ما سبق مما فيه مصلحة راجحة جمعا بين النصوص.

قال النووي رحمه الله تعالى:

" فإن قيل: كيف مكنوا بالثناء بالشر، مع الحديث الصحيح في البخاري وغيره في النهي عن سب الأموات؟

فالجواب: أن النهي عن سب الأموات: هو في غير المنافق، وسائر الكفار، وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة . فأما هؤلاء: فلا يحرم ذكرهم بشر، للتحذير من طريقتهم، ومن الاقتداء بآثارهم، والتخلق بأخلاقهم.

وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شرا، كان مشهورا بنفاق، أو نحوه مما ذكرنا.

هذا هو الصواب في الجواب عنه، وفي الجمع بينه وبين النهي عن السب " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (7 / 20).

وتقيّد هذه الغيبة والسبّ؛ بأمور:

الأمر الأول: أن تكون بما يجوز شرعا؛ فلا يجوز الفحش أو الانتقاص من صورته، أو تقبيح وجهه، والسخرية منه ونحو هذا.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ  رواه الترمذي (1977) وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وصححه الألباني في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1 / 634).

الأمر الثاني: أن لا يخرج الكلام عنه عن حد الحاجة، إلى حدّ الثرثرة وتضييع الأوقات بمثل هذا الكلام.

عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ : عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدَ البَنَاتِ ، وَمَنَعَ وَهَاتِ ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةَ المَالِ   رواه البخاري  (2408) ، ومسلم (593) .

الأمر الثالث: أن لا يكون بالكذب والمبالغة، وأن يحمل عليه ما ليس فيه؛ لما هو معلوم من حرمة ذلك.

الأمر الرابع: وأن يكون ذلك بنية مشروعة؛ وليس بنية التشفي أو الفكاهة ونحو هذا.

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

" هل يجوزُ غيبةُ تاركِ الصلاةِ أم لا؟

الجواب:

، إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة، وكان تاركَها: فهذا جائز.

ويَنبغي أن يُشاعَ ذلك عنه، ويُهْجَر حتى يُصلي..." انتهى من "جامع المسائل" (1/122).

وقال الصنعاني رحمه الله تعالى:

" والأكثر يقولون بأنه يجوز أن يقال للفاسق: يا فاسق، ويا مفسد، وكذا في غيبته؛ بشرط قصد النصيحة له، أو لغيره ببيان حاله، أو للزجر عن صنيعه، لا لقصد الوقيعة فيه، فلا بد من قصد صحيح " انتهى من "سبل السلام" (8 / 294).

ثانيا:

وأمّا الكافر ؛ فينظر .. فإن كان معاهدا للمسلمين؛ فلا يجوز الاعتداء عليه بسبّ أو غيبة إلا لمصلحة مشروعة.

روى أبو داود (3052) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:   أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  ، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" .

والنهي عن سبّه وغيبته لغير مصلحة راجحة يتناول حال موته.

جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (24 / 141):

" سب المسلم للذمي معصية، ويعزر المسلم إن سب الكافر.

قال الشافعية: سواء أكان حيا، أو ميتا، يعلم موته على الكفر " انتهى.

وقال الصنعاني رحمه الله تعالى:

" عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا ) أي: وصلوا ( إلى ما قدموا ) من الأعمال (رواه البخاري).

الحديث دليل على تحريم سب الأموات ، وظاهره العموم للمسلم والكافر...

قوله: ( قد أفضوا إلى ما قدموا ) علة عامة للفريقين معناها أنه لا فائدة تحت سبهم والتفكه بأعراضهم، وأما ذكره تعالى للأمم الخالية بما كانوا فيه من الضلال فليس المقصود ذمهم بل تحذيرا للأمة من تلك الأفعال التي أفضت بفعلها إلى الوبال وبيان محرمات ارتكبوها، وذكر الفاجر بخصال فجوره لغرض جائز وليس من السب المنهي عنه فلا تخصيص بالكفار " انتهى من "سبل السلام" (3 / 413).

وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (13611) .

لكن يقيد هذا النهي بعدم وجود مصلحة راجحة كما مضى في المسلم الفاسق؛ فإذا جاز غيبة المسلم الفاسق بعد موته للمصلحة الراجحة على المفسدة، فالكافر المعاهد أولى؛ لأن حرمته ليست بأعظم من المسلم، ويقيّد هذا بما قيّد في غيبة وسبّ المسلم الفاسق.

وأما الكافر المحارب فإنه تجوز غيبته وسبّه؛ فإذا جاز قتاله، فسبّه وغيبته من باب أولى.

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هِجَاءِ المُشْرِكِينَ قَالَ: كَيْفَ بِنَسَبِي؟

فَقَالَ حَسَّانُ: لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنَ العَجِينِ "رواه البخاري (3531)،ومسلم (2489).

والهجاء نوع من السبّ.

ولأن الله أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء لمن ظلمه ، والكفار المحاربون ظلمة .

قال الله تعالى:  لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا  النساء /148.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك، فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله.

ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول، كالذكر والكلام الطيب اللين.

وقوله: ( إِلا مَن ظُلِمَ ) أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه، ويتشكى منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه، ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 212).

والكافر المحارب كما أنه لا حرمة له حيّا ؛ فكذلك لا حرمة له ميتا.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

"  تحريم سب الأموات بغير حق أو مصلحة شرعية.

الأموات : يعني الأموات من المسلمين.

أما الكافر: فلا حرمة له ، إلا إذا كان في سبه إيذاء للأحياء من أقاربه، فلا يسب، وأما إذا لم يكن هناك ضرر، فإنه لا حرمة له، وهذا هو معنى قول المؤلف رحمه الله: "بغير حق" لأن لنا الحق أن نسب الأموات الكافرين الذين آذوا المسلمين وقاتلوهم، ويحاولون أن يفسدوا عليهم دينهم " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (6 / 230).

لكن هذا يقيّد:

- بالمصلحة؛ فإذا كان السبّ والغيبة يؤدي إلى مفسدة مبغوضة شرعا؛ فإنه ينهى عن هذا في هذه الحال؛ كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى:  وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ   الأنعام/108.

ومن المفاسد التي ينبغي أن تجتنب؛ كأن يكون لهذا الكافر قرابة مسلمون يتأذون بغيبته؛ فيكف عن غيبته في هذه الحال مراعاة لحال قرابته.

- ويقيّد هذا السبّ والغيبة بأن يكون بحق، لا اعتداء ولا كذب فيه.

قال الله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ البقرة /190.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" فالكذب على الشخص حرام كله، سواء كان الرجل مسلما أو كافرا، برا أو فاجرا؛ لكن الافتراء على المؤمن أشد " انتهى من "مجموع الفتاوى" (28 / 223).

وأما سوء الظن القلبي بالكافر المجرد عن التحدث به فهذا لا يحرم ؛ لأن الكافر ليس من أهل العدالة، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" أما الكافر فلا يحرم سوء الظن فيه؛ لأنه أهل لذلك " انتهى من "الشرح الممتع" (5 / 300).

والله أعلم.

الغيبة الأخلاق
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب